«إقراض القوى الحادة».. هل تنجح الصين فى استرجاع الحقبة الاستعمارية على طريقة القرن الـ21؟!
الصين تواصل تقديم قروض ميسرة إلى الدول النامية
منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، ظهرت العديد من المتغيرات الاقتصادية والسياسية على الساحة الدولية، وكان من ضمن هذه المتغيرات صعود عمليات الإنقاذ الثنائية الضخمة من قبل القوى الناشئة المتلهفة إلى استخدام فوائض سيولتها لتقديم قروض للدول التى تمر بأزمات مالية صعبة فيما يعرف حديثاً بـ«إقراض القوى الحادة»، الذى تسعى من خلاله هذه الدول إلى تحقيق مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية، وبرزت أربع دول من كبار مقدمى هذا النوع من القروض، «الصين، روسيا، السعودية، والإمارات»، تختلف شروط وأسباب المساعدات التى يتم تقديمها من هذه الدول المانحة، حيث ترتبط المساعدات فى بعض الدول بإجراءات وإصلاحات مالية واقتصادية كما فعلت المملكة العربية السعودية مؤخراً مع البحرين بتقديمها قرضاً لدعم برنامجها الإصلاحى، فيما برز توجه آخر فى تقديم هذه القروض، التى لا تفترض أى اشتراطات لتقديمها وعدم خضوع الدول المقترضة للرقابة، وتمثل هذا الاتجاه بصورة أساسية فى القروض المقدمة من جانب الصين للدول النامية، ما أثار العديد من التساؤلات حول الأهداف السياسية والاقتصادية وراء تقديم هذا النوع من القروض؟ وهل يساهم هذا النوع من الإقراض فى تقليل الاحتياجات إلى حزم الإنقاذ من صندوق النقد الدولى؟
فى الوقت الذى يفرض فيه صندوق النقد والبنك الدوليان شروطاً صعبة على الدول لتحصل على المساعدات والقروض، التى عادة ما تلجأ إليها الدول عند حدوث أزمات مالية أو تنفيذ برامج إصلاحية فى اقتصادياتها، نجد أن القروض الحادة التى تقدمها الصين تتسم بالعديد من المزايا، التى تتمثل فى كونها قروضاً سهلة، نظراً لأن فترات سدادها طويلة قد تصل إلى 40 عاماً، بالإضافة إلى أسعار الفائدة المنخفضة، وفترة سماح تتراوح بين 3-10 سنوات، فضلاً عن عدم الالتزام بروشتة المؤسسات الدولية، التى تكون قاسية فى كثير من الأحيان، ونظراً لما تتميز به هذه القروض من إجراءات ميسرة، اتجهت العديد من الدول النامية، خاصة الأفريقية والعربية، للحصول على هذا النوع من التمويل، وكانت الصين الممول الأساسى لهذه الدول، حيث حصلت القارة الأفريقية على قروض بقيمة 64 مليار دولار، فى إطار خطة الصين لتدعيم نفوذها فى كل الدول المرتبطة بطريق الحرير، ورغم إعلان الرئيس الصينى شى جين بينغ، أن بلاده مهتمة بدعم وتنمية الدول المشاركة فى طريقها التجارى الجديد، فإن هذا الدعم لم يخرج حتى الآن عن كونه تسهيلات كبيرة تقدمها الصين فى شكل قروض تمنحها للدول الراغبة فى شراكة اقتصادية معها، وعلى الرغم من سهولة الحصول على القروض الحادة التى تقدمها الصين، فإن المؤسسات المالية الدولية تواصل تحذيرها من تراكم الديون التى تهدد النمو الاقتصادى العالمى، وتخل بميزان الاستقرار المالى، خاصة الدول النامية والفقيرة التى ترضخ لشروط قروض مقرونة باستثمارات قد تفقدها ملكيتها لمواردها، خاصة مع تضاعف عدد الدول الفقيرة أو محدودة الإيرادات التى تقع تحت أعباء الديون الثقيلة منذ عام 2012، حتى بات بعضها تحت خطر التعثر وإعلان عدم السداد، حيث ارتفعت قروض تلك الدول كنسبة من نواتجها المحلية من 30% إلى 50% وفقاً لصندوق النقد والبنك الدوليين.
ياسر جاد الله: القروض الصينية لا تسعى لتحقيق أهداف أحادية.. واستمرارها يهدد عرش صندوق النقد والبنك الدوليين
وتوجهت الكثير من الاتهامات فى السنوات الأخيرة لـ«الصين» كونها تبالغ فى إقراض دول، ثم تضع يدها على تقرير مصير موارد ومرافق تلك الدول مباشرة أو عبر شركاتها العامة، وكانت سيريلانكا من أبرز الدول التى وقعت فى هذه الأزمة، حيث حصلت هذه الدولة الصغيرة على قرض بقيمة 8 مليارات دولار بفائدة ٦٫٣% وعجزت عن سداد ما عليها لـ«بكين»، فإذا بها تتنازل لشركة صينية عامة عن أحد أكبر موانئها لمدة 99 عاماً، بالإضافة لنحو ١٥ ألف فدان قريبة من الميناء كمنطقة صناعية.
"أبوباشا": استحواذ الصين على ميناء سيريلانكا يسبب الذعر للحاصلين على قروض منها
ومن جانبه قال ياسر جاد الله، أستاذ الاقتصاد ومدير مركز البحوث الصينية، إن سياسة الصين قائمة على عدم التدخل فى اقتصاديات الدول الأخرى، مشيراً إلى أنها لا تسعى إلى تحقيق أهداف أحادية من وراء تقديمها للقروض الميسرة، مؤكداً أن هذه الادعاءات تمثل أحد أنواع الحروب الخفية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية فى ظل صعود الصين كقوة اقتصادية وسياسية عظمى، خاصة فى ظل التوترات التجارية الأخيرة بين البلدين، ولفت إلى أن الصين استفادت من الأخطاء التى وقعت فيها الولايات المتحدة فى إدارتها للنظام الاقتصادى العالمى، وتدخلها فى الشئون الداخلية للبلدان من خلال صندوق النقد والبنك الدوليين، وتعمل على تلافى مثل هذه الأخطاء بتقديمها للقروض الميسرة غير المشروطة، وذلك فى ظل سعيها لأن تكون دولة ذات وضع فى إدارة الاقتصاد العالمى، فى ضوء ضخامة حجم إنتاجها الذى يقدر بنحو 12% من إجمالى الناتج العالمى، مشيراً إلى أن الدولة تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية إلى جانب أهدافها الاقتصادية، وأشار جاد الله إلى أن سياسة الصين فى تقديم القروض الميسرة غير المشروطة، مستندة على فوائض السيولة الضخمة لديها، تهدد عرش مؤسسات التمويل الدولية، وتمثل نوعاً من أنواع الضغط على هذه المؤسسات لتغير سياساتها وتوجهاتها المتعلقة بالإقراض، مضيفاً «ربما يأتى يوم ولا نجد البنك الدولى أو صندوق النقد».
"حسنين": بكين تستهدف توسيع قاعدتها الاستثمارية بـ"منجم العالم" لتهيمن على المواد الخام
وعلى صعيد آخر، قال محمد أبوباشا، نائب رئيس قطاع البحوث ومحلل الاقتصاد الكلى ببنك الاستثمار هيرميس، إن القروض التى تقدمها الصين للدول النامية بضمانات ميسرة ضمن مبادرة الحزام والطريق تُشكل خطراً على هذه الدول، مستدلاً بتعثر سيريلانكا عن سداد قروضها للصين ما دفع الأخيرة إلى الاستحواذ على أهم ميناء فى الدولة الأفريقية، وأضاف أن استحواذ الصين على ميناء سيريلانكا بث الخوف فى كثير من الدول التى تحصل على تمويلاتها من الصين مثل كينيا وباكستان الحاصلتين على قروض من الصين لإقامة بعض المشروعات الهامة، متوقعاً استحواذ الصين على بعض هذه المشروعات فى تلك الدول خلال الشهور القليلة المقبلة، وأشار إلى أن الصين تمتلك أبعاداً سياسية تهدف إلى التوسع فى نفوذها السياسى والاقتصادى والسيطرة على الموانئ والمشروعات الرئيسية فى دول أفريقيا، مضيفاً أنها تستغل مبادرة الحزام والطريق لإيقاع الدول فى «مصيدة الديون»، خاصة أنها لا تشترط برنامج إصلاح اقتصادى، ما يسهل وقوع الدول فى فخ الديون وعدم القدرة على السداد، وبالتالى استحواذ الصين على المشروعات الهامة فى تلك الدول المتعثرة، وتابع أن الولايات المتحدة أيضاً تستغل إقراضها للدول لتحقيق أغراضها السياسية، حيث شهدت السنين الماضية إقراضها المفرط لباكستان، أثناء الصراعات القائمة بين أفغانستان والولايات المتحدة، وفور هدوء تلك الصراعات تخلت الولايات المتحدة عن إقراض باكستان لأنها لم تعد بحاجة لدعمها، وأكد أن المؤسسات الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليين سيتأثران سلبياً بإقراض الدول لبعضها البعض، خاصة أنها تشترط برامج إصلاح اقتصادى قاسية ولكنها فعالة، كما تشترط أيضاً حُسن العلاقات والمصالح مع الولايات المتحدة.
"عياد": القروض بدون ضمانات أحد أسلحة الصين لمحاربة الولايات المتحدة سياسياً
فيما قال الدكتور عز الدين حسنين، الخبير الاقتصادى، إن اتجاه بعض الدول الكبرى التى تمتلك فوائض مالية ضخمة وعلى رأسها الصين، إلى تقديم قروض ميسرة للدول النامية، تستهدف بصورة أساسية شراء ولاء هذه الدول، التى تمر بعثرات مالية تجعلها فى أشد الحاجة إلى التمويل، فضلاً عن ضمان استحواذها على حصص سوقية فى هذه الدول، وأكد أن هذا النوع من التمويل يعتمد على العلاقات السياسية والاقتصادية بين حكومات الدول المانحة والمقترضة، ويحقق منافع متبادلة بين الطرفين، حيث تتمكن الدول المانحة من فتح أسواق جديدة لتصدير منتجاتها، وتستفيد الدول المقترضة بالتمويل اللازم لدعم برامجها الإصلاحية دون الحاجة إلى الالتزام بشروط صندوق النقد والبنك الدوليين، وأشار إلى أن «إقراض القوى الحادة» لا يقلص من دور صندوق النقد والبنك الدوليين، مشيراً إلى أن القروض المشروطة التى يقدمها الصندوق لبلد ما تعكس ثقته فى هذه الدولة أمام المؤسسات الدولية الأخرى، ما يدعم ثقة الأخيرة فى اقتصاد وتوجهات هذه الدولة، ونوه بأن سياسة الصين فى تقديم هذا النوع من الإقراض تستهدف من خلاله توسيع قاعدتها الاستثمارية بصفة خاصة فى القارة الأفريقية، التى تنظر إليها على أنها منجم العالم، بما يضمن توافر تدفق المواد الخام بدون أى قيود، بالإضافة إلى دعم مشروع الحزام والطريق الذى تتبناه الصين.
وفى نفس السياق، قال محمد عياد، رئيس القسم التنفيذى لفاروس لترويج وتغطية الاكتتابات، إن إقراض الدول التى لديها فائض سيولة لدول أخرى تعانى من عجز فى الموازنة، يعكس مدى رغبة الدول المانحة فى التدخل السياسى والتوسع فى نفوذها، وأوضح أن توسع الصين فى إقراض الدول بضمانات محدودة يُعد إحدى أدوات الحروب السياسية التى تستخدمها الصين تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، ويعكس مدى رغبة الصين فى توسيع نفوذها بين دول العالم، خاصة الدول الأفريقية.