لا شىء سيتغير فى مصر إلى الأفضل إلا إذا قررنا الخروج من محور التبعية المهينة للولايات المتحدة الأمريكية، ولا شىء سيتغير على كل المستويات إلا إذا أصبح القرار السياسى المصرى فى يد رجل قوى يعرف خطورة اللحظة التاريخية التى يمر بها العالم الآن، ويعرف خطورة الأوضاع السياسية التى تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، ويعى تماماً أن زلزال الخراب الأمريكى الذى ضرب العراق وليبيا والسودان واليمن وسوريا، لن يتوقف حتى يأخذ مصر فى طريقه، وأن هذا الزلزال يبحث لنفسه عن مداخل عديدة، ويستخدم أدوات شديدة الخسة لإغراق مصر فى الفوضى والخراب، قبل أن يفيق الشعب المصرى ونخبته السياسية من توابع «الربيع العربى»، الذى تحول إلى ربيع أمريكى- إسرائيلى فى غفلة من بعضنا، وبمساعدة مأجورة من البعض الآخر.
فى هذا السياق جاءت زيارة المشير عبدالفتاح السيسى المفاجئة لروسيا، بوصفها خطوة واسعة فى الطريق الصحيح، وضربة مباغتة لمحور الخراب العالمى الذى تقوده أمريكا، ورسالة سياسية شديدة الوضوح للعالم كله بأن مصر لن تنتظر اكتمال خريطة الطريق التى أعلنتها عقب ثورة 30 يونيو لتبدأ التحرك المستقل والقوى نحو حماية مصالحها، ونحو إنقاذ حاضرها ومستقبلها من سيناريو الخراب المتسارع فى المنطقة كلها. وقد كان بإمكان السيسى أن ينتظر حتى يأتى رئيساً لمصر، لكى يبدأ تحركه وزياراته الخارجية، ولكنه قرر وخطط وباغت العالم كله بهذه الزيارة، إدراكاً منه لخطورة الانتظار والنار تلتهم الأوطان المحيطة بمصر، والخراب يتمدد ليصل إلى منابع النيل فى إثيوبيا، ونظام «أردوغان» الإخوانى الماسونى يؤجج الصراع بين مصر وإثيوبيا ويتعهد للأخيرة بتمويل بناء منظومة دفاع صاروخية كفيلة بحماية سد النهضة فى حال قررت مصر أن تهدمه.
لقد فعلها «السيسى» إذن فى اللحظة المناسبة تماماً، استقل الطائرة بزى مدنى، وهى إشارة رمزية شديدة العمق تؤكد معرفته بأنه لا يمثل الجيش المصرى فقط فى هذه الزيارة، ولكنه يمثل الدولة المصرية بكل مكوناتها، وأنه لا يبادر باتخاذ قرار سياسى على هذه الدرجة من الأهمية بوصفه جنرالاً يقف على رأس مؤسسة عسكرية عريقة، ولكن بوصفه رمزاً سياسياً لدولة شديدة الأهمية يُجسد تاريخها وحاضرها ومستقبلها خريطة من المهابة والكرامة الوطنية إذا امتلكت إرادتها السياسية، وتنحط إلى دور السمسار المغلوب على أمره إذا فرطت فى هذه الإرادة.
وقد جاء خروج الرئيس الروسى بوتين على تقاليد البروتوكول السياسى ليؤكد المغزى السياسى العميق لهذه الزيارة المهمة، فقد استقبل «السيسى» فى الكرملين وتمنى له التوفيق فى الوصول إلى منصب الرئيس.. ثم جاءت إشارة وزير الخارجية الروسى فى لقائه مع وزير الخارجية المصرى إلى «ضرورة مراعاة مصالح الشعوب واحتياجاتها وحقها فى الموارد المائية»، لتؤكد أن أهداف الزيارة تجاوزت بكثير صفقات السلاح الروسى لمصر إلى ما هو أهم وأبقى وأعمق، إلى ملف سد النهضة الذى جهزته أمريكا وتركيا لتركيع مصر وإفقارها وتخريبها فى المستقبل القريب جداً. وقد جاء استدعاء روسيا للتدخل فى هذا الملف فى حالة تدويله ضربة معلم يعرف كيف يدير قضايا بلد بحجم مصر، ويعرف كيف يعيد ترتيب أوراق النفوذ فى المنطقة لينجو ببلده من مصير مهلك، وليضع حجراً مدبباً فى جوف الضبع الأمريكى الذى كان قاب قوس واحد من نهش وحدة وسلامة وأمن مصر.
هل من أمل جديد يبزغ الآن فى طريقنا نحو الإفلات من الخراب والاستقرار؟
نعم، بعد هذه الزيارة أرى ضوءاً مبهراً يلوح فى الأفق.. وألمح بداية تاريخ جديد من المهابة والكبرياء الوطنية والاستقلال السياسى والازدهار الاقتصادى، تخطه الأقدار على يد رجل يستند إلى ثقة الشعب فيه، وتسنده تربية مستقيمة فى واحدة من أعرق مؤسسات الوطنية فى العالم كله.