ما بين باب الدنيا والآخرة.. بضع قمم وملايين الكرات الثلجية المتدحرجة على جرح نازف باللون الأبيض.. وقفل صدئ لقلوبنا..
لم أعرف أياً منهم ولم ألتقهم يوما ما لكنى وجدت صورتى بينهم فى آخر ابتسامة التقطت لهم وهم على قمة «باب الدنيا» فى وداعهم الأخير نحو باب الآخرة.. حادثهم المأساوى أشعل براكين الحزن والتعاسة على أرواح طاهرة أرادت أن تبرح الأرض إلى السماء متدثرة بدرجة حرارة 10 تحت الصفر فتلقفتهم أبواب السماء مُرحبة بميعاد ليس كأى ميعاد..
يا أيها أصحاب الأكباد الغليظة.. يا من تقتاتون الشائعات كمُضغة بطعم الدم المتجمد فى الفم.. إن للموت حرمة وللفجيعة قدسية أكبر كثيرا من أن تُسكب وجيعتُها فى بضعة أسطر حمقاء تتلاعب بأقدار الآخرين الحزينة تحت شعارات سياسية فجة لا تعرف الإنسانية أو تعى حرمة أطراف تجمدت فى عتمة ليل لم تشرق عليه شمس مرة أخرى!
هالنى ما تداولته صفحات التواصل الاجتماعى من صور جثث ضحايا حادث سانت كاترين المُفجع.. يتناقلون الصور كخبيئة موت عارية.. يمصمصون شفاههم حسرة.. بينما يتلذذون بتفاصيل ثلاجة الموت الأولى قبل أن تنتقل الجثامين إلى ثلاجة جديدة.. لكن لا تقلقوا فلربما كان القبر أكثر دفئا من قلوب بشر ما عادت تستوعب معنى كلمة «مات»!
وما بين اتهام الجيش بالتقصير.. وسخافة تصاريح العشر ساعات لأنهم لا يحملون الجنسية الأجنبية والأدوار الخفية التى قام بها البدو فى سانت كاترين.. تجمدنا نحن الآخرون من إنسانيتنا.. بعد أن تحولت قصتهم إلى معركة إعلامية سياسية منزوعة الإنسانية، لقد بحثوا كثيرا فى لحظاتهم الأخيرة عن ركن دافئ.. وبكل أسف لم يجدوه بعد موتهم حتى فى قلوب الناس.
وبينما نحن نصب عليهم لعنات الغضب على من فعلها.. على طريقة «إيه اللى وداهم هناك»، كان هؤلاء الشباب ينتقون تاريخ ومكان موتهم بحذر وترقب وابتهالات لم نسمعها، ورجفة قلوب ترتعش قبل الأجساد.. بعد أن يقرر الثلج أن يكون كفنا لهم!
يا أصحاب القلوب الصدئة.. لقد ذهب أولئك الشباب إلى قمة جبل باب الدنيا لكى يُنجبوا أحلاما جديدة فى ريفها الأبيض فوق السحاب.. كوموا مشاعرهم النبيلة فى لحظة قدرية صعبة لكى تُزهر ربيعا من نوع آخر.. فأضحوا كالعشب الذى نبت تحت الثلج فى غفلة من الزمن وأيقظوا الثلج على سفح الجبال فكان أكثر كرما من بخل البشر واحتضنهم للأبد!
كفاكم تشدقاً بموتنا.. كفاكم تشدقا بفجيعة الفقدان.. كفاكم شماتة فى جلالة مشهد اختاره القدر بعناية ليكون اللقطة الأخيرة فى كادر حياة كل منهم.. اتركوهم فى سباتهم الشتوى الأبدى.. وابحثوا لقلوبكم عن مدفئة تعيد إليها النبض بعيدا عن كوارثنا.. فهناك أحداث يصبح الحديث عنها مُبتذلاً يُهين من فقدانهم.. ويجعلنا نحن أولى منهم بالرثاء!