بالفيديو.. "هنا المطابع الأميرية".. قلعة الطباعة في الشرق الأوسط
المطابع الأميرية
بحلول نوفمبر 2020، تمر 200 عام من عمر «المطابع الأميرية»، التى أنشأها محمد على باشا فى إطار مشروعه لبناء دولة حديثة قوية، والتى تعتبر أقدم وأكبر مطبعة فى مصر والعالم العربى، وهى المطبعة التى تغير اسمها فى عهد الرئيس الراحل عبدالناصر لتصبح «الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية»، وانتقلت عام 1973 من موقعها التاريخى القديم فى «رملة بولاق» إلى موقعها الحالى بكورنيش النيل بإمبابة.
"الوطن" داخل أقدم مطبعة مصرية وعربية
لا تزال «المطابع الأميرية»، بعد كل هذه السنين، تقوم بدورها فى خدمة الدولة المصرية بطباعة معظم مطبوعاتها ووثائقها الرسمية، بداية من الجريدة الرسمية والوقائع المصرية، ومطبوعات رئاسة الجمهورية، وكتب التربية والتعليم والتعليم الأزهرى، بما فى ذلك المخصصة للمكفوفين بطريقة «برايل»، فضلاً عن كراسات إجابات الاختبارات، وحتى تذاكر الأوتوبيس والملاهى، جنباً إلى جنب مع استعادة دورها التنويرى القديم فى نشر الكتب، بإعادة إنشاء إدارة للنشر طبعت حتى الآن 25 عنواناً.
ورغم أنها تستخدم سنوياً نحو 25 ألف طن ورق أبيض فقط، فإنها تكافح أيضاً لتطوير نفسها واللحاق بالعصر بتحدياته ومتغيراته التكنولوجية، باستحداث مجالات عمل جديدة منها طباعة الوثائق والكارنيهات المؤمَّنة ضد التزوير، والطباعة بالليزر.. لذلك كله خاضت «الوطن» هذه الرحلة بين تاريخ وحاضر «المطابع الأميرية»، أحد مظاهر عراقة وقوة الدولة المصرية.
ماكينات حديثة تطبع الوثائق الحكومية والكتب الدراسية وتذاكر الأوتوبيس والملاهى و"كارتة المواقف": عالم ورق ورق
هنا فى «ورشة الطبع الخفيف» بمبنى هيئة المطابع الأميرية على كورنيش النيل فى حى إمبابة، الذى تم إنشاؤه عام 1973، كانت بعض من روائح المطبعة الأميرية القديمة فى «رملة بولاق»، تنبعث من الآلات التى يعود بعضها لخمسينات القرن العشرين، وتم نقلها من المبنى القديم للمطابع الأميرية الذى أنشأه محمد على باشا قبل نحو 200 عام.
تنتشر أشكال مختلفة من الماكينات فى صالة فسيحة، بجوارها «رُزم» من الورق المُعد للطبع، بينما ينهمك عمال من أجيال مختلفة فى متابعة العمل أمامها، وبالخلفية مقولة مدونة على لوحة خضراء موروثة من عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، مقتبسة من الميثاق الوطنى الذى أصدره، ويعتز بها العمال كثيراً، تقول: «إن القيادات الوطنية حين تخلع جذورها من التربة الشعبية تحكم على نفسها بالذبول والموت».
بجوار واحدة من الماكينات العتيقة، يقف يوسف عفيفى، رئيس الورشة، الذى التحق بالعمل فى المطبعة أوائل عام 1976، وظل قرابة 43 عاماً يتابع العمل ويوجه زملاءه العاملين، مُدركاً أهمية العلاقة الودية التى تنشأ بين العامل والماكينة، فبحكم خبرته، يحرص «يوسف» على أن يكون لكل ماكينة عامل أو اثنان فقط، يفسر ذلك قائلاً: «عشان يحافظوا عليها ويبقوا عارفين لو فيه تغيّرات حصلت فى صوتها، أو مشكلة عشان نحلها»، مشيراً إلى الارتباط بين العامل والماكينة، وحرصه عليها باعتبارها مصدر «لقمة عيشه».
"يوسف": "ورشة الجمع" كانت فى السبعينيات تختص بالحروف العربية والإنجليزية وتطورت إلى النايلون لمنع استخدام "الرصاص" الذى يُصيب العُمال بالأمراض
رئيس الورشة يبدى خشيته فى الوقت نفسه من «انخفاض أعداد العمال نتيجة وقف التعيينات فى الحكومة»، فضلاً عن «توقف الزيادات على أساسى مرتبات العمال منذ 2015 حتى الآن، وعدم إضافة العلاوات السنوية»، لافتاً إلى أن الإدارة الحالية للهيئة، وإن كانت محكومة بالنظام المتبع فى الحكومة ككل، إلا أنها تحاول معالجة ذلك، وتعويض العمال بأشكال أخرى، بحسب كلامه.
يعرف «يوسف» أن بإمكان الماكينات القديمة القيام بمهام لا تستطيع الماكينات الحديثة تأديتها، منها على سبيل المثال إمكانية طبع «لونين على الورقة مرة واحدة، أو طبع أصل و3 صور»، على حد قوله، وهى التقنيات التى يستفيدون منها فى طبع تذاكر الأوتوبيس والملاهى وحديقة الحيوان والمواقف و«الكارتة»، وتصاريح السفر الخاصة بمواقف بورسعيد.
يستعيد «يوسف» تاريخ وتطور الورشة خلال فترة عمله بها، ففى البداية كانت هناك ورشة كبيرة اسمها «ورشة الجمع» للحروف العربية والإنجليزية، كانت تجمع الحروف فى كلمات لتشكل فى النهاية الصفحة، وكانت الحروف من مادة الرصاص التى تشكل خطراً على سلامة وصحة العامل، وتحديداً صدره، ويمكن أن تصيب بالتسمم، وهناك حالات عديدة أُصيبت، وفى محاولة لتفادى ذلك كان يتم تسليم هؤلاء العمال وجبة مكونة من «بسكوت ولبن».
بعد ذلك، حسبما يسرد «يوسف»، تطور الأمر لأسلوب «النايلون برنت» أو الطباعة بالنايلون، وتحديداً فى تسعينات القرن الماضى، لأن «الرصاص كانت تكلفته غالية، وتكلفة السك، أى صب الرصاص بعد انصهاره لتشكيل الحروف، كانت غالية، وصحة الإنسان التى كانت تتأثر بذلك أغلى وأغلى»، وفقاً لتعبيره، ولذلك كان لا بد من التطوير والوصول لمرحلة طباعة النايلون، وهو نوع من أنواع البلاستيك، ويعمل بنظام معين.
يستعرض رئيس الورشة أنواع وإمكانيات الماكينات الموجودة، والأوراق التى تطبعها، قائلاً: «فيه ماكينات بتطبع أرقام بس، وماكينات تطبع وتُرقم، وماكينات تطبع أصل و3 صور وتجمع وترقم. ودى كارتة الشرقية، بنطبعها 2 لون، اللون الأسود بيطبع فى المكنة دى، والنمرة والشعار بيطبعوا بلون تانى فى مكنة تانية، والماكينة دى بتطبع أصل و3 صور، ودى بتاخد ترقيم بس، أما كارتة القليوبية فتطبع وترقم مرة واحدة على ماكينة أخرى».
لحساسية الأوراق التى يتم طباعتها ووجود قيم مادية لها، يقول: «لدينا نظام تأمين لمعرفة مين طبع إيه وفى أى وردية، بالإضافة لكاميرات المراقبة، هناك دفاتر يتم تدوين هذا الكلام بها والاحتفاظ به، عشان لو بعد 10 سنين أقدر أعرف مين اللى طبعه، ولو حصلت مشكلة خاصة بورق معين، أعرف مين اللى عملها وفى أى وردية، وبالتالى مفيش مجال إن عامل يغلط ويقول مش أنا، ومن هنا صعب حد يلعب فى أى حاجة».
إلى جوار ماكينات ورشة الطبع الخفيف، ويعود بعضها للخمسينات، كان لا بد للتطور أن يأخذ مجراه أيضاً، حيث تستعين الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية الآن بأحدث ماكينات الطباعة لمواكبة العصر، والوفاء بالكميات الكبيرة من المطبوعات التى تطلب منها، وبالسرعة الواجبة. وتضم الهيئة المُقدر مساحتها بـ35 ألف متر مربع، 63 ماكينة طباعة، و230 ماكينة مساعدة، بطاقة إنتاجية 779 مليون ملزمة سنوياً، وبين أحدث هذه الماكينات، ماكينة الطباعة المعروفة باسم «كومباكتا سى 215» COMPACTA C215، حيث تم إنشاء «مبنى الأميرية للطباعة الحديثة»، عام 2007، خصيصاً لها، وهى مزودة بمجفف لحماية سطح الورق من الخدش والاحتكاك، وتبلغ سرعتها الإنتاجية 40 ألف ملزمة فى الساعة.
من جانبه، يشير ناصر عبداللطيف، أحد الفنيين، إلى أن الماكينة تُعد من أحدث الماكينات فى الشرق الأوسط، وتتمتع بإمكانيات عالية تشمل الطباعة على ورق بوزن 45 جراماً وحتى 180 جراماً، وملفات بعرض يتراوح بين 57 لـ100 سم، ويتم ضبط كمية الحبر والألوان والمياه المستخدمة فى الطباعة عبر شاشة تحكم.
"ناصر": أنشأوا مبنى الأميرية للطباعة الحديثة لوضع ماكينة الـ"كومباكتاسى 215".. مزودة بمجفف لحماية سطح الورقة من الخدش والاحتكاك
لم يقف التطور عند هذا الحد، حيث جددت الهيئة عام 2017 ورشة الطباعة الرقمية، واشترت، بحسب ما يقول المهندس محمد هاشم، أحد المسئولين عن التدريب والتطوير بالهيئة، ماكينتين للطباعة الرقمية، إحداهما تطبع 4 لون بسرعة 70 صفحة فى الدقيقة، وحتى وزن 300 جم على الوجهين، وماكينة أخرى تطبع لوناً واحداً بسرعة 95 صفحة فى الدقيقة، وهى الماكينات التى تتناسب مع طبع كميات صغيرة من الورق بتكاليف أقل، لتكتمل بذلك أسباب التحديث للمطبعة العريقة.