فى العشرين من ديسمبر الماضى، أعلنت المدعية العامة فى المحكمة الجنائية الدولية، «فاتو بنسودا»، عزمها فتح تحقيق شامل فى مزاعم ارتكاب جرائم حرب فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، وأضافت المدعية العامة للمحكمة أنه قبل فتح التحقيق ستطلب من المحكمة، ومقرها لاهاى، أن تقرر ما هى الأراضى المشمولة ضمن صلاحياتها، لأن إسرائيل ليست عضواً فى المحكمة. واستطردت رئيسة الادعاء لدى المحكمة الجنائية الدولية فى بيانها إلى القول بأن لديها «قناعة بأن جرائم حرب ارتكبت أو ترتكب فى الضفة الغربية، بما يشمل القدس الشرقية وفى قطاع غزة». وأوضحت بنسودا أنه فى ظل طلب السلطة الفلسطينية تدخل المحكمة، فإنها لا تحتاج لطلب موافقة القضاة على بدء التحقيق.
ورغم أن صيغة البيان قد جاءت عامة، دون تحميل طرف بعينه مسئولية جرائم الحرب، وإنما تجعل الاحتمال قائماً بشأن توجيه اتهامات لإسرائيليين أو لفلسطينيين، فقد سارعت أصوات عربية رسمية وغير رسمية عديدة إلى الترحيب بالقرار، وربما يرجع ذلك إلى أن القرار قد جاء استجابة لطلب مقدم من السلطة الفلسطينية، باعتبارها عضواً فى المحكمة. فى المقابل، وبمجرد صدور الإعلان، رد رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو عليه بالرفض والاستنكار، بحجة أن المحكمة لا تملك أى سلطة لإجراء هذا التحقيق. وفى الخامس والعشرين من ديسمبر الحالى، وفى كلمة على هامش عرض جوى لسلاح الطيران، قال وزير الحرب الإسرائيلى «نفتالى بينت» إن تل أبيب ستمنح جنودها «قبة حديدية قضائية»، فى مواجهة قرار المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، وقال «بينت» مخاطباً متهمين إسرائيليين بارتكاب جرائم حرب: «تقومون بحمايتنا وسوف نحميكم».
ويبدو أن الحكومة الإسرائيلية تسعى إلى استنساخ تجربة العم سام مع المحكمة الجنائية الدولية، عندما سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى إبرام اتفاقات منفردة مع العديد من الدول من أجل منح جنودها حصانة من الملاحقة أمام المحكمة الجنائية الدولية. كذلك، وبمجرد إقرار النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية، المعروف اختصاراً باسم ميثاق روما، سعت الولايات المتحدة الأمريكية لمنح حصانة مستقبلية لجنودها المشاركين فى قوات حفظ السلام الدولية المنتشرة فى البوسنة والهرسك. وتحقيقاً لهذا الهدف، لجأت الدولة العظمى الأولى فى العالم إلى استخدام حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار من مجلس الأمن الدولى بتمديد مهمة بعثة الأمم المتحدة فى البوسنة والهرسك، دون أن يتضمن تقرير حصانة للجنود الأمريكان المشاركين فيها. وللتغلب على هذه المشكلة، وفى الثانى عشر من يوليو 2002م، اضطر أعضاء مجلس الأمن الدولى إلى تبنى وجهة النظر الأمريكية، حيث اعتمد المجلس بالإجماع القرار رقم 1422، متضمناً النص على أن المجلس «يطلب، اتساقاً مع أحكام المادة 16 من نظام روما الأساسى، أن تمتنع المحكمة الجنائية الدولية لمدة اثنى عشر شهراً ابتداء من 1 تموز 2002 عن بدء أو مباشرة أى إجراءات للتحقيق أو المقاضاة، فى حالة إثارة أى قضية تشمل مسئولين أو موظفين حاليين أو سابقين تابعين لدولة مساهمة ليست طرفاً فى نظام روما الأساسى، فيما يتصل بأى عمل أو إغفال يتعلق بالعمليات التى تشنها الأمم المتحدة أو تأذن بها، إلا إذا قرر مجلس الأمن ما يخالف ذلك».
ولم تكتف الولايات المتحدة الأمريكية بذلك، حيث قام الرئيس الأمريكى الأسبق جورج دبليو بوش، فى الثانى من أغسطس سنة 2002م، بالتوقيع على قانون بشأن حماية العسكريين الأمريكان (American Service-members’ Protection Act)، المعروف إعلامياً باسم «قانون غزو لاهاى»، الذى يهدف إلى حماية الجنود والمسئولين الأمريكان ضد الملاحقة الجنائية أمام المحكمة الجنائية الدولية. وقد وصل هذا القانون إلى مستوى غير مسبوق فى إهدار قواعد القانون الدولى، وذلك من خلال النص على تخويل الرئيس الأمريكى الحق فى اتخاذ كل الإجراءات الضرورية والمناسبة لتحرير أى مسئول أو جندى أمريكى يتم القبض عليه أو سجنه بواسطة أو باسم أو بناء على طلب من المحكمة الجنائية الدولية، ولو وصل الأمر إلى حد غزو دولة أخرى، الأمر الذى دعا الوسائل الإعلامية إلى أن تطلق على هذا القانون مسمى «قانون غزو لاهاى».
إن لكل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ميراثاً طويلاً من الانتهاك السافر للقانون الدولى وقرارات المنظمات الدولية. ومع ذلك، يبقى أن قرار المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية خطوة مهمة تستحق الإشادة بها، وتجعل الأمل معقوداً فى أن تتحقق العدالة يوماً ما فى هذا العالم. وبالعدل تحيا الأمم وبإقرار الحقوق ونصرة المظلومين تستحق البشرية أن تكون خليفة الله فى الأرض.