م الآخر| نظرية الحواوشي
تناول الكاتب "اللذيذ" محمد فتحي في مقالة بجريدة "الوطن" يوم الإثنين الموافق 10/3/2014 تجربة "والتر كرونكايت" الذي بدأ عمله كصحفي في ثلاثينيات القرن الماضي، والذي أسمع عنه للمرة الأولى، وتحدث فتحي عن صدق هذا الرجل ونزاهته ومهنيته، واختتم مقاله بسؤال.. هل لدينا "كرونكايت" في مصر؟
نبهني هذا السؤال إلى واقع من المفترض أنه استوقف رجال الصحافة قبلي، ومن المفترض أيضًا أنهم راجعوا أنفسهم حتى يعرفوا أين يقفون، وسألت نفسي، ولكن بصيغة مختلفة، هل رجال الصحافة الحاليين يقفون على خشبة مسرح الشهرة الزائفة، أم أنهم يقفون على منبر المهنية الذي اعتلاه "كرونكايت".
إن سؤال "فتحي" المباغت هذا جعلني أنظر إلى منظومة الإعلام في مصر نظرة أكثر عمقًا، فوجدت أن إعلامنا - قد أكون مخطئًا - أُصيب بآفة السبق التي قد تحيد به أحيانًا عن المهنية أو عن الدقة، لأسباب إما تجارية، أو لتوسيع دائرة الانتشار، والتي تصب في النهاية في دائرة البزنس.
وتوصلت أيضًا إلى أن فكرة (السبق) هذه تشبه الماراثون الساخن في مضمار متعرج يسقط فيه القوي والضعيف على حد سواء، والفكرة قديمة بدأت بها الصحافة على وجه الخصوص، ولكنها عندما نشأت كان وراءها مجهود يبذل، ولكن عندما أراد ثعلب السياسة الراحل أنور السادات، أن يحرك المياه الراكدة في بركة مصر السياسية، أعلن عن أوكازيون إنشاء الأحزاب حتى يكون هناك رأي - قال إيه ـ معارض.
وعلى الفور، نهضت الأحزاب القديمة "ونفضت هدومها"، وتأسست أحزاب جديدة "خيبانة"، واندفع الجميع وأصدروا صحفهم ليخاطبوا من خلالها الجماهير العطشى والتواقة إلى سماع صوت مختلف، فامتلأت الأرصفة بالصحف فكان منها البيضاء التي آثرت السلامة "ومشيت جنب الحيط" فأصبحت باهتة وعديمة الطعم والرائحة، وكان منها الصفراء التي دأبت على دس السم في العسل، ثم تحاول بعد ذلك "بخيابة" أن تبعث فينا الحياة من جديد، وفي كل الأحوال كانت تسب وتلعن الأجداد والأحفاد، حتى جاء الوقت الذي اكتشف فيه القارئ بغيهم، فلفظهم وأخرجهم من المنافسة.
ولكن للأسف قبل خروجهم، تركوا لنا سُنة صحفية أفُضل أن أسميها بـ "نظرية الحواوشي" الذي يحتوي على عشرة جرامات من اللحمة، والباقي بصل وشطة حارة، فقد دأبت هذه الصحف على وضع "مانشيتات" جاذبة وربما تكون كاذبة، وعندما تقرأ التفاصيل لا تجد شيئًا مما زينوا به صفحاتهم الأولى، حتى أن الخبر كان يمكن أن يصنعونه من بعض الكلمات المتناثرة في الحواري أو في أروقة الدواوين، ثم يقوموا بإعادة تشغيل هذه الكلمات على طريقة "الكُنافة"، ثم يضيفوا إليها "تحابيش الحواوشي" فتصبح خبرًا جاذبًا أو جدليًا، ومع ذلك فقد زاع صيتها، حتى أن الصحافة القومية تراجع توزيعها، فاضطر البعض منها أن يحذو حذوها، ولكن على استحياء.
وعلى الرغم من تعدد وسهولة الوصول إلى وسائل المعرفة ووسائل نقل الخبر على مستوى العالم الآن، إلا أننا مازلنا نُقدس هذه السُنة التي تركتها لنا تلك الصحف، وللإنصاف فإن المسؤول عن ترسيخ هذه السنة هو القارئ الذي ألتمس له العذر أيضًا؛ لأنه أدمن على التحابيش، وبالتالي أصبحت المنظومة بطرفيها (الصحفي والقارئ) متناغمة، حتى أن الصادق من الإعلاميين أصبح.. دمه تقيل.
ومن الغريب والجديد نسبيًا هو ظاهرة "نفخ الحالة"، سواء كانت هذه الحالة شخصًا، أو موضوعًا، أو حتى خبرًا، فترى الكاتب مثلًا يدس بين سطور حالته بعضًا من مفرداته العامية ونوازعه الشخصية، وربما أحقاده أو تجلياته كنوع من أنواع التحابيش، في الوقت الذي لا تحتاج منه هذه الحالة غير نقلها وكفى، ومفيش مانع من شوية (بصل وشطة)، بس أهم حاجه متكونش على حساب (اللحمة).