سؤال واحد، وإن تغيرت صيغته، يتردد على ألسنة معظم المصريين، هو: ماذا حدث لنا، وكيف أصبحنا بهذا العنف الوحشى، إلى درجة جعلتنا نحتل عناوين صحف عالمية، بصورة تناقض تماماً تلك التى عرفنا بها العالم على مدى آلاف السنين؟ وما جعل ناقوس الخطر يدق بقوة وكأنه الرعد، هذه الأيام، مشهد الاقتتال الذى كانت أسوان مسرحاً مأساوياً له.. وكأن المصريين، بعد مجزرة أسوان وما صاحبها من مشاهد مفزعة، لم يعودوا يتقبلون «المُسكنات» علاجاً لأوضاع تتطلب شجاعة التصريح بطبيعة الداء، الذى مهما كان عضالاً ومستشرياً، إلا أنه يستحيل أن يقف الجميع عاجزين حياله، واستمرار حالة الهروب، جبناً أو فشلاً، من تحديد العلاج بأمانة، فالأمر يتصل هذه المرة بالوطن ذاته.. وأياً كانت التهديدات والمؤامرات والأسلحة الفتاكة، بدءاً من القتل إلى التكفير، فإن الأغلبية الساحقة من الشعب التى استشعرت هذا الخطر، فنزلت إلى الشوارع تتصدى، لا سلاح بيدها إلا حب مصر والإصرار على إنقاذها، على استعداد لتحمل آلام العلاج وتكلفته، خاصة وقد استعاد الوطن لُحمته، بين الشعب والجيش والشرطة وكل مؤسسات الدولة.. خيوط المخطط الذى كان يستهدف مصر، كثيرة ومتنوعة، ومتشعبة، خاصة فى المنظومة التعليمية، من الحضانة إلى الجامعة، وكذلك فى المساجد والزوايا، التى انتشرت بصورة لافتة للنظر وتوزعت بين مختلف تيارات «الإسلام السياسى»، بإخضاع المنابر إلى أهداف لا تخدم مصر، بل على العكس تماماً.. تكاثرت الأحداث الطائفية، منذ سبعينات القرن الماضى، وكتبت السلطات آنذاك، أفشل روشتة، أى المسكنات، والشيخ يقبل القس، فى انتظار الحادثة المقبلة، والتى لا شك فى أنها آتية، حيث يتم التحريض عليها من كافة المنابر! وقد شجع النظام سراً، وأحياناً علناً، الخطاب «الدينى» الساعى إلى تغييب العقل فى خدمة الانفتاح الاقتصادى الوحشى والمتوحش، والذى وصفه أستاذنا الراحل أحمد بهاء الدين بـ«الانفتاح السداح مداح» وكان هذا، فى رأيى، حجر الأساس لكل ما وصلت إليه مصر، من تقلص الدور، بل وتقزيمه أحياناً، إذ انسحبت الدولة، انسحاباً شبه كامل، وتخلت عن ٩٠٪ من المصريين، وكانت تلك هى الثغرة الهائلة لتسلل جماعة الإخوان والتنظيمات التابعة لها، لكونها متفرعة عنها، إلى المؤسسات التعليمية، تحت سمع وبصر الدولة، بل وترحيبها أحياناً، فشكلت «العقول» وفق مفاهيمها وأفسدت بالتالى «الجوهر المصرى» الأصيل، لدى قطاعات لا بأس بها داخل المجتمع، وبإلقاء نظرة خاطفة على هذا الجانب، سنرى أن عدد قصور الثقافة لا يكاد يصل إلى عُشر عدد المساجد والزوايا، وقد تواطأت الدولة مع هؤلاء ومع من يرعون مخطط تقويض الدولة المصرية، الذى كاد يصل إلى مداه، لولا ستر الله، الذى ذكر مصر فى كتابه الكريم، ولولا لحظة الوعى الفارقة بالخطر فى يونيو الماضى.. ولا شك عندى بأن زلزال الانفتاح الاقتصادى قد أدى إلى خلخلة شديدة الوطأة فى المجتمع، واتسعت الهوة السحيقة بين الأثرياء والفقراء، فكانت ثغرة أخرى مدمرة، دخل منها الإخوان وجماعاتهم، «بكرتونة الزيت والرز» وبالمستوصفات، بعدما تردت المستشفيات الحكومية إلى حد مزرٍ، وباستغلال تدين المواطنين البسطاء إلى حد إقناعهم بامتلاك مفاتيح الجنة وأبواب جهنم.. والكارثة أن ترك الساحة خالية فى مجال التعليم، أدى إلى اكتشافنا، مذهولين، لأساتذة جامعة يهربون المولوتوف والخرطوش فى سياراتهم، وإلى تخريج «أطباء» يرفضون علاج ضابط شرطة، بل ويعجلون بموته.. ونفس الحال بالنسبة للنقابات المهنية، التى سيطر عليها الإخوان، بكل الوسائل ومنها سلاح التكفير الرهيب الذى رفعوه فى وجه أى معارض، أو حتى غير راغب فى الانصياع لتعاليمهم، تطبيقاً لمبدأ «السمع والطاعة». وهذا الموضوع طويل وشديد العمق، وأثق فى أنه سينال الاهتمام اللازم، والاقتناع بأن طى مرحلة المسكنات قد أصبح ضرورة عاجلة وحتمية، وأن التخريب الذى أصاب قطاعاً من المصريين، وتجلى فى تهريب وتكديس كميات مرعبة من أشد الأسلحة فتكاً وضراوة، وكلها بطبيعة الحال صناعة أجنبية، وتخريب الجامعات وقتل أفراد الجيش والشرطة والصحفيين وحرق علمنا الوطنى، ورفض الوقوف احتراما أثناء عزف السلام الوطنى، يستلزم علاجاً ناجعاً، وليس المسكنات، التى أدى الاستسهال فى استخدامها إلى المشهد المشين الذى فاجأنا وفاجأ حكومتنا، فى أسوان، وعلينا، حكومة وأهالى، أن نتصدى لأصل الداء.. ولن يتحقق ذلك، إلا بعودة الدولة.