يعرف السعوديون والإماراتيون حقيقة الدور الذى تلعبه قطر فى المنطقة لصالح الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.. ويعرفون أيضاً أن أمير قطر لم يصل إلى الحكم بعد الإطاحة بوالده، إلا بمساعدة أمريكية واضحة.. كانت الصفقة التى تمت فى إحدى العواصم الغربية تقضى بمنح الابن الضوء الأخضر والإسهام من المخابرات الأمريكية فى خلع الأب.. مقابل توسع الدوحة فى منح واشنطن قواعد عسكرية فى قطر، ثم القيام بدور «الوكيل» فى تنفيذ السياسات الأمريكية الإسرائيلية فى الشرق الأوسط..!
ولأن مصر مفتاح المنطقة والكعكة الأكبر.. شعر السعوديون والإماراتيون بالخطر، بفعل تغلغل الدور القطرى فى شرايين السياسة المصرية خلال العامين الأخيرين.. لذا كان طبيعياً أن يبادر الرئيس «مرسى» بزيارة السعودية فى أول رحلة خارجية بعد توليه الحكم.. ثم توجيه الإمارات الدعوة له لزيارة أبوظبى.. والواقع - كما قال لى سياسى سعودى بارز - إن الرياض وأبوظبى شعرتا بقلق مكتوم لما تفعله الدوحة فى مصر.. وإن حملة الهجوم التى يشنها الفريق ضاحى خلفان قائد شرطة دبى ضد «الإخوان المسلمين» ترجع إلى المعلومات التى رصدتها المخابرات الإماراتية حول اتفاق بين واشنطن والدوحة على دعم التيار الإسلامى المتشدد فى الدولتين «السعودية والإمارات» لتغيير النظام الحاكم بالدولتين.. وربما كان ذلك أيضاً وراء حملة الاعتقالات التى شنتها السلطات الإماراتية منذ أسابيع ضد قيادات «جمعية الإصلاح» هناك، التى تعد فرع «الإخوان» فى الإمارات..!
هكذا يبدو مشهد «القطرنة» شديد التعقيد فى المنطقة العربية.. إذاً لا يمكن فصل الدور القطرى الممتد فى مصر عن المساعدة المعلنة التى قدمتها الدوحة لحلف «الناتو» لخلع نظام القذافى فى ليبيا.. ولا يمكن أيضاً فصل الدعم القطرى الواضح للتيار الصاعد فى مصر أثناء المرحلة الانتقالية وجولات الانتخابات المختلفة.. هذا الدعم له قرائن وأدلة لا تخفى على أحد: منها زيارة مسئول المخابرات القطرية إلى القاهرة قبل الانتخابات الرئاسية، وما تردد عن لقاءاته السرية بقيادات سياسية فاعلة، وما حمله من أموال سائلة.. ثم مشاركة شخصية خليجية - يرجح أنها قطرية - فى الاجتماعات المغلقة لحملة الدكتور محمد مرسى فى جولة الإعادة، وإسهام هذه «الشخصية» فى التخطيط للحملة على مدار الساعة..!
والثابت لدى خبراء الاقتصاد فى العالم.. أن دولة مثل قطر لا تعمل بأموالها وحدها.. فثمة شبكة عنقودية شديدة التعقيد لرؤوس الأموال فى الاقتصاد العالمى الحديث.. فالنظام العالمى الذى نجحت أمريكا فى ترسيخه خلال السنوات الأخيرة، يتيح لمليارات الدولارات التجول فى العالم كله، لتحقيق الأهداف والمخططات السياسية الأمريكية، التى تتحالف دائماً مع رؤوس الأموال اليهودية والداعمة للدولة الإسرائيلية..!
ولأن رؤوس الأموال تتزاوج وتتصاهر فى «صناديق» مشتركة الأجناس.. اعتمدت الخطة القطرية على دعم وتمويل التيارات السياسية الصاعدة فى مصر من دون دعم الشعب المصرى ذاته.. وبدا ذلك بوضوح فى إصرار قطر على عدم منح القاهرة مساعدات اقتصادية.. والاكتفاء بوضع «وديعة» فى البنك المركزى بشروط محددة تجعلها بلا فائدة حقيقية وملموسة للاقتصاد المصرى.. ثم الإعلان - أثناء زيارة رئيس الوزراء القطرى للقاهرة قبل ثلاثة أيام - عن استثمارات قطرية تقدر بـ18 مليار دولار فى مصر.. تلك الاستثمارات التى ستنفذ بشروط قطرية تضمن للدوحة امتلاك مفاتيح «مساومة» القاهرة خلال السنوات المقبلة على ملفات سياسية متفق عليها مسبقاً..!
إن «قطرنة» مصر لا تنتهى لمخططات الاستعمار القديم.. وإنما ولدت من رحم السياسة الأمريكية الإسرائيلية الجديدة، التى تستند إلى استراتيجية ثابتة: المساعدة فى وصول تيار يمينى محافظ إلى الحكم، ينتمى إلى مشروعه الخاص أكثر مما ينتمى للدولة، ويسعى لخدمة «الجماعة» أكثر من المجتمع.. ويبنى علاقة حميمة مع الطبقة الوسطى بحكم استفادتها المباشرة من انضوائها تحت لوائه، ويؤسس علاقة موازية مع الطبقات المهمشة والفقيرة، تقوم على «المنح والتصدق» بالحد الأدنى للحياة، دون رفع قدرة هذه الطبقات على «الحياة»..!
وفى الجانب السياسى، تستند الاستراتيجية الأمريكية على استعداد هذا «التيار الدينى السُّنى» لتقديم المساعدة الواضحة لواشنطن فى مواجهة المد الشيعى فى المنطقة، فضلاً عن استعداده لإبرام الصفقات المطلوبة إقليمياً ومحلياً، بحكم انتمائه لمشروع دينى عالمى، ورؤية محلية منزوعة من الهوية المصرية التاريخية..!
من هذا التشابك الشديد فى المصالح.. تبدو مصر بعد خطايا المجلس العسكرى فى المرحلة الانتقالية «مكافأة كبرى» تقتسمها أطراف تصالحت واتفقت على طريقة التوزيع.. الكبير قوى «أمريكا» سوف يستخدمها بثوبها الجديد فى إتمام خطته للمنطقة وفى قلبها إسرائيل.. والصغير الطامح «قطر» يحصل على أكبر سوق فى الشرق الأوسط.. ومن يحكمون مصر حصلوا على «السلطة» حلمهم التاريخى، والدعم للمشروع الخاص.. وأنت وأنا وكلنا «بمبة»..!