المفتي السابق: دعوات "الإخوان الإرهابية" للخروج في ظل "كورونا" معصية صريحة.. وعلينا إدراك أن "ربنا مش راضي عنهم"
الدكتور على جمعة، مفتى الديار المصرية السابق، عضو هيئة كبار العلماء شيخ الطريقة الصديقية الشاذلية
أكد الدكتور على جمعة، مفتى الديار المصرية السابق، عضو هيئة كبار العلماء شيخ الطريقة الصديقية الشاذلية، أن الحج عُطِّل 40 مرة تاريخياً بسبب «الأوبئة والفتن والحروب»، فكان من الطبيعى تعليقه فى ظل أزمة «كورونا»، منوهاً بأن الحكمة من الفيروس الرجوع إلى الله وتذكُّر نعمته والتوبة من الذنوب.
وأوضح «جمعة»، فى حوار لـ«الوطن»، أن تنقية كتب التراث عملية متحركة ودائمة ولا تنتهى، وأن الخطاب الدينى الحالى يحتاج لتجديد مستمر ليتواءم مع السرعة التى تكتنف لغة العصر، مشيراً إلى أن الحياة لا تصلح إلا بالدين، مهاجماً جماعة الإخوان، مؤكداً أن لها خطاباً للناس وواقعاً سرياً يعيشون به، مبنياً على قاعدة الحول والقوة.
وإلى نص الحوار
هل فيروس «كورونا» وباء أم بلاء؟
- قد يكون لرفع درجات بعض الناس، ولبعضهم غفران ذنوب، وثالث لتحصيل ثواب، وقد يكون لبعضهم امتحاناً وابتلاء واختباراً، وقد يكون نوعاً من أنواع العذاب الأدنى الذى هو دون العذاب الأكبر، والبعض من كل هذا فى جريان الكون والحكمة أن يرجع الإنسان إلى ربه، ويتذكر نعمه، ويتوب من ذنبه، يلجأ إلى الله بقلب حاضر، ونسأل الله الصبر فى نزول البلاء، ونسأله العافية من هذا الوباء، وما يُحدثه من غلاء وأنواع مِحن أخرى، وفى كل حال نتوب إلى الله، ونسأله الأجر، ونبدأ صفحة جديدة مع الله عما كان منا من عمل، فالرجوع إلى الله مقصد حدوث تلك المحن فى الكون.
الإجراءات التى اتخذتها مصر لمواجهة كارثة انتشار الفيروس الحالية كانت استباقية لم تنتظر نزول البلاء بل استشرفت حدوثه واتخذت الإجراءات اللازمة لمواجهته وتقليل ضرره
كيف ترى تحركات الدولة لمواجهة «كورونا»؟
- إجراءات مصر فى تلك الكارثة كانت استباقية، لم تنتظر نزول البلاء، بل استشرفت حدوثه، واتخذت اللازم لمواجهته، وتقليل ضرره، وأيضاً ما لاحظناه فى «السعودية» -وفقها الله فى كل خير- لا سيما قرارها الصعب الخاص بالحرمين الشريفين، نظراً لتعلق قلوب المسلمين بهما فى كل مكان، وهنا نوضح أن تعليق الصلاة هناك، ليس لأول مرة، حيث عُطِّل الحج تماماً نحو 40 مرة منذ أيام النبى حتى يومنا هذا، ووقعت أحداث منها حروب وأخرى فتن وبعضها أوبئة، إلى أن جاء «عبدالحميد الخربوطى»، وكان مدرس الحنفية أيام الدولة العثمانية وسأله الوزير «يوسف كمال»، حول حكم دخول الحاج فى مكة وقت الوباء، وكان وقتها وقع الوباء الكبير -لأنه ظل سنين عدداً- وقتل أكثر من ثلث الحُجاج، وكان يقتل كل عام أكثر من ألف شخص، وأجابه مدرس الحنفية بحرمة دخول الحاج إلى مكة، وهذا كان كتاب ألفه «الخربوطى» وبين فيه هذا الحكم، كما حدث أيام الإمام «ابن حجر العسقلانى» وباء، فاجتمع الناس ليقرأوا «البخارى» ويدعو الله ليزيحه، فازداد الوباء، واليوم يجوز اجتماع العلماء على «الإنترنت».
التجمع حتى لو بقصد دعاء الله غير جائز كونه ضد "الحجر الصحى" وقديماً تجمع الناس للتضرع لرفع الوباء فى زمن "ابن حجر العسقلانى" فانتشر وتفشى.. واليوم يجوز اجتماع العلماء ولكن من خلال "الإنترنت"
ماذا عن دعوات «الإخوان الإرهابية» للخروج والتظاهر فى ظل «كورونا»؟
- هذا نوع من أنواع التخلف العقلى والمعصية الصريحة، لأن هذا التجمع فى ذاته ضد «الحجر الصحى»، حتى لو كان للدعاء إلى الله «فلا يجوز»، فما بالك بالخروج والاعتراض بلا مبرر، والحقيقة أن هؤلاء أصحاب فتن مستمرة، ويجب علينا معرفة ألاعيبهم وندرك أن الله ليس راضياً عنهم.
كيف ترى تجديد الخطاب الدينى فى الوقت الراهن؟
- تجديد الخطاب الدينى يعنى تجديد أساليب الفهم والتطبيق للأحكام الشرعية، وأسلوب عرض المفاهيم الدينية، فى «اللغة، الأدوات، استخدام المصطلحات، التفاعل مع الواقع»، وهو ضرورة.
وماذا عن التجديد من وجهة نظرك؟
- التجديد يبدأ من حسن إدراك الواقع بعوالمه الخمسة المختلفة، كل عالم حسب المنهج المناسب له، إضافة إلى إدراك العلاقات البينية بين كل عالَم وآخر، والتعامل مع هذه العوالم على أنها كلّ مترابط، وأنها متغيرة بصفة دائمة، وحينما ندرك هذه الحقيقة نتفهم ضرورة متابعة البحث والتقييم للواقع المعيش وإعادة فهمه بصفة مستمرة، لأن هذا التغيير سُنة من سنن الله فى كونه، فإن عالم الأشياء يحتاج إلى المنهج التجريبى، والذى اعتمد عليه المسلمون من قبل والغربيون من بعد فى بناء حضارتهم، فقد ساعد الإنسان على تسخير مقدرات الكون، والاستفادة بما بثه الله فيه من ثروات.
ما الضوابط الحاكمة لهذا المنهج؟
- يجب أن ينضبط المنهج التجريبى بمفاهيم واضحة وهى (أ) لم يضع الشرع الشريف للبحث العلمى حداً فى أى جهة كانت، فقد أطلق الشارع للإنسان العنان ليتفكر ويعقل كل صغيرة وكبيرة فى هذا الوجود، وأطلق تعالى فضل العلم، ولم يقصره على العلم النظرى أو الشرعى، ولقد رفع القرآن الكريم منزلة العلماء حتى قصر معرفة الله وخشيته الحقة عليهم.
(ب) المسلم عند خروج بحثه من دائرة النظر المجرد إلى التطبيق العملى يتقيد بما جاء فى شريعته من أوامر ونواهٍ وأخلاقيات، ولا يضرب المنهج الإلهى بالمنهج التجريبى، حتى لا يفسد حياته، فقد ساق إليه ربه وخالقه شريعة تقوده إلى الصلاح والسعادة، وأما غير المسلم فإنه يسير حسب فلسفة النفعية والبرجماتية، ولربما دفعه ذلك إلى دمار الكون والبشرية لمصلحة ذاتية مؤقتة، فيُغرق نفسه فى التعاسة والضنك، رغبة فى التسلط على الخلق، وجنى الشهوات، فيدور حول نفسه لا ينشغل إلا بها. (ج) المسلم تضبط حركة حياته العقلية والعلمية، التى تفرق بين العوالم المختلفة: «الأشياء، الأشخاص، الأحداث، الأفكار، النظم، الرموز، العلاقات»، وكل هذه العوالم وغيرها تمثل الواقع المعيشى من حولنا، ولكل عالم منها مكوناته وأسلوب أمثل للتعامل، ومنهج مختلف للفهم.
كيف يكون الاختلاف.. ولماذا لا يوجد أسلوب واحد؟
- كل منهج يعتمد على تقييم الدليل المناسب والبرهان المستقيم لإثبات القضية محلَّ النظر، ويتبع منهجاً واضحاً محدداً فى التعامل مع الحقائق، معتمداً مصادر المعرفة السليمة، وينعى على أصحاب العقلية الخرافية العشوائية التى تصنع لأنفسها مناهج تدميرية، «الانتحار، الانبهار، الاجترار، الانحسار، الاغترار»، وكلها مناهج مرفوضة، فمنهج الانتحار وهو الذى يسلك صاحبه طريق التكفير والشذوذ والعنف والتطرف ليعبر عن ذاته وتميزه، ومنهج الانبهار بالآخر وهو الذى يجعل صاحبه يُهمل مصادر الشرع وإبداع الحضارة التى ينتمى إليها، وينجذب نحو كل ما يجده عند الآخر من غث أو سمين، ويخرج كل يوم ينكر الهوية والانتماء حتى معايير اللغة العربية ومقتضياتها، وينكر إجماع الفقهاء وعلماء المسلمين عبر العصور، ويقول بكل ما يؤدى إلى إذابة هوية الإسلام وإقصائها لصالح هوية علمانية أو عولمية تخص الآخر الذى انبهر به، فإن منهج الانحسار الانعزالى هو الذى يؤدى إلى الفرار من الواقع واللجوء إلى الأحلام والخيال والوهم، وهو الأمر الذى يشبه الفرار يوم الزحف، والشرع الشريف يرفض هذا المنهج ويدعو صاحبه للعودة إلى المجتمع ومخالطة الناس والمساهمة فى إعمار الكون.
حدِّثنا عن المناهج الأخرى وما الذى تعنيه؟
- منهج الاجترار هو الذى يدعو صاحبه إلى العيش أسيراً لما جاء فى التراث من مسائل، ويقف عند حدها دون اجتهاد أو تفكر، فهو يعيش فى انفصال شبه تام عن واقعه المعاصر، وعلاجه أن ندعوه وندربه على فهم مناهج السلف وطرائق الفقهاء حتى يتبعها فيتمكن من الاجتهاد والتجديد، كما فعلوا تلبية لواجب وقتهم الذى أحسنوا القيام به وأسأنا القيام عليه، أما منهج الاغترار وهو الذى يسير عليه غير المتخصصين مغترين بما حصلوه من دراسة ظناً منهم أنهم بلغوا النهاية فى التخصص، وأن بمقدورهم التطاول أو التعديل على أصحاب الفنون الأخرى، وأول ما تمتد أيديهم للعبث والتبديد يكون فى علوم الشريعة، وهم غير مؤهلين لذلك ولم يستكملوا المعرفة بالمسائل والمناهج وأدوات هذه العلوم، أما عالم الأشخاص، وقد تحدث عنه الفقهاء، فقسموه إلى شخصيتين «طبيعية، واعتبارية»، ولكل منهما أحكام تخصها، وينبغى أن تراعى تلك الأحكام مصالح الناس والمقاصد الشرعية، ولا يجوز الخلط بينهما حتى لا يفسد الواقع المحيط، وعالم الأحداث، وهو الذى يحلل مضمون المسألة والموقف، ويستعمل هذا التحليل فى تكييف الحكم، وعالَم الأحداث مركب فى الحقيقة من الأشياء والأشخاص والوقائع والعلاقات البينيّة، وهو أكثر العوالِم تداخلاً وتسارعاً، حتى نرى أن وكالات الأنباء الستة الكبرى تبث كل يوم 120 مليون معلومة أغلبها أحداث، مما يبين أهمية هذا الجانب، أما عالَم الأفكار والنظم فإنه يعد أساساً لكثير من السلوكيات والتطبيقات.
وما أهمية كل هذه العوامل وانعكاساتها على ملف تجديد الخطاب الدينى؟
- مما سبق يتبين لنا أهمية إدراك الواقع ومعرفة المنهج العلمى فى التفكير والتجديد والتفاعل معه، وأن يتحلى المسلم بعقلية فارقة تميز بين الأمور والمتشابهات، وتراعى دائماً المقاصد الشرعية من حفظ النفس والعقل والدين والكرامة الإنسانية والملك، وعليه فنقول إن المنهج الصحيح يحترم المصادر الإسلامية، ويحدد حجيتها، وطريقة توثيقها، وأدوات فهمها، ومساحة القطعى والظنى، والثابت والمتغير فيها، وطريقة الإلحاق بها، وكيفية الترجيح فيما بينها عند التعارض الذى يرد على ذهن المجتهد، والسقف الذى يجب أن يلتزم به، وما شروطه، كما أن المنهج يهتم بوضع رؤية كلية ينبثق عنها إجراءات، فهى منهج البحث العلمى الذى نراه عند الأصوليين، حيث يعرف «الرازى» ومدرسته أصول الفقه بأنه «معرفة دلائل الفقه إجمالاً»، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد، يعنى تكلم عن مصادر البحث الفقهى، ثم كيفية البحث وطرقه، ثم شروط الباحث، وهى الأركان الثلاثة بحالها التى اتخذت فيما بعد منهجاً علمياً كما قرره «روجرز بيكون» المصادر والطرق وشروط الباحث.
التجديد ضرورة وموجود فى حضارتنا وتراثنا وليست له نهاية بل هو دائم النمو والتطور.. ويعنى بعث الدين وإحياءه وإعادته إلى الفاعلية فى الحياة.. والشرع لم يضع للبحث العلمى حداً فهو مسئولية مشتركة لعموم الأفراد كل فى موقعه
هل تجديد الخطاب الدينى بدعة جديدة أم أمر معروف تاريخياً ومتبع؟
- التجديد ضرورة، وهو موجود فى حضارتنا وتراثنا، وقد أشار إليه رسول الله فى السنة المشرفة وبشر به، حيث روى عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»، وتجديد الدين يعنى بعثه وإحياءه وإعادته إلى الفاعلية فى واقع حياة الناس، روى الإمام أحمد فى مسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «جَدِّدُوا إِيْمَانَكُمْ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ: «أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ»، والتجديد مصدر جَدَّدَ، ويعنى وجود شىء كان على حالة من الحالات ثم تقادم عليه الزمن أو طرأ عليه ما غيَّره، فإذا أعيد إلى حالته قبل أن يصيبه البلى ويدركه التغيير كان ذلك تجديداً. فالمفهوم اللغوى للتجديد أنه تحديث لما هو قائم بالفعل، وليس إحداثاً أو إحلالاً.
الإمام الغزالى ألَّف كتاب "إحياء علوم الدين" لاستشعاره تراجع علوم الشريعة عن مواكبة عصره.. وهى ذاتها أسباب حاجتنا إلى تجديدها وتفعيلها من جديد فى الوقت الراهن.. ويمكننا تصفية الآراء المتشددة والتحذير منها.. والمؤسسات قامت بجهود ضخمة ومستمرة للرد على المتشددين
إذن التجديد شىء متعارف عليه؟
- نعم.. لقد استشعر الإمام الغزالى منذ ألف عام تقريباً ضرورة أن يؤلف كتابه «إحياء علوم الدين»، حيث رأى أن علوم الشريعة بدأت فى النكوص أو التراجع عن مواكبة عصره، وهى ذات الضرورة التى تجعلنا فى مواجهة مع تجديد علوم الشريعة وإحيائها وتفعيلها من جديد، كما ألف الإمام السيوطى رسالة فى القرن العاشر الهجرى سماها «الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد فى كل عصر فرض»، وألف كتاباً آخر يتكلم فيه عن نفسه، ساق فيه سيرته الذاتية سماه «التحدث بنعمة الله» يقول فيه: «إننى قد اجتهدت فى كل الفقه، إلا أننى رأيت أن أوثق المذهب الموروث وهو مذهب الشافعى»، واستدل بكلام ابن دقيق العيد الذى يقول فيه: «ما قلدنا الشافعى ولكن وافق اجتهادنا اجتهاده».
وهل نعلم الآن العلماء الذين جاءوا كل مائة عام لتجديد الدين؟
- نعم، فإن العلماء قد عينوا المجدد الذى أتى على رأس كل مائة عام، وفى المعجم الأوسط للطبرانى عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحيا سُنتى فقد أحبنى، ومن أحبنى كان معى فى الجنة»، فالتجديد صياغة جديدة بلغة يفهمها المخاطبون، على حد قول الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه: «حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله»، وورد أيضاً عن ابن مسعود رضى الله عنه: «ما أنت محدث حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان على بعضهم فتنة»، وقد نقل العلامة الزركشى عن الشيخ عز الدين بن عبدالسلام أنه قال: «يحدث للناس فى كل زمان من الأحكام ما يناسبهم، وقد يتأيد هذا بما فى البخارى عن عائشة أنها قالت: لو علم النبى -صلى الله عليه وسلم- ما أحدثته النساء بعده، لمنعهن من المساجد»، وقول عمر بن عبدالعزيز: «يحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور». أى: «يجددون أسباباً يقضى الشرع فيها أموراً لم تكن قبل ذلك، لأجل عدمه منها قبل ذلك، لا لأنها شرع مجدد»، وقد عبر الفقهاء عن هذا بقاعدة فقهية مضيئة تقول: «لا ينكر تغيير الأحكام بتغيير الزمان»، وهى من القواعد المتفرعة عن إحدى القواعد الخمس الكبرى وهى قاعدة: «العادة مُحكمة».
هل للتجديد أصول وأساليب ومناهج؟
- نعم، فالتجديد يبدأ من الإدراك الجيد للواقع المعيشى وحسن التفاعل معه، فنعبر عنها بكلمة «النموذج المعرفى»، وبنائه ووضع أسسه وتحديد أركانه وماهيته وأهدافه يقوم بها مفكرو الأمة وروادها المبدعون، ثم ينقلونه لعموم الجماهير حتى تتبناه الأمة وتتوافق عليه عوامها وعلماؤها، والمفكرون دائرة واسعة يدخل فيه المفتى والفقيه والخطيب والروائى والإعلامى والشاعر والصحفى والقائد والمدير، وهذا النموذج يشيع فى المجتمع عن طريق المقررات المدرسية والصحف والبرامج الإذاعية والمرئية وكذلك الدراما المقروءة والمشاهدة، وخطب الساسة والقادة.
التجديد يبدأ من حسن إدراك الواقع بعوالمه المختلفة
ومَن المسئول عن التجديد؟
- يمكن فهم التجديد عن طريق بناء النموذج المعرفى المتفق عليه بين أبناء المجتمع الواحد وهو مسئولية مشتركة لعموم الأفراد كل فى موقعه، فالنسبية التى شاعت فى الغرب فى وقت ما على يد «نيتشه» وأمثاله، روج لها الروائيون والصحفيون، وهكذا تأثرت الجامعة والدراسات الأكاديمية التى رسخت لنموذج العولمة ثم ما بعد العولمة، والحداثة وما بعد الحداثة، وغيرها من المدارس الفكرية والفلسفية التى أثرت على المجتمع وراجت فيه فى فترة زمانية معينة، حتى صارت مؤثرة على القرار السياسى والتشريعى فى الدول والشعوب، والمتأمل فى النموذج المعرفى الإسلامى يجد أنَّ المسلمين قد آمنوا بالمطلق، واعترفوا بالنسبى، وإيمانهم بالمطلق تمثل فى إيمانهم بالله، فالله سبحانه وتعالى كان قبل الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، أى قبل الجهات الأربع التى تحكم الواقع المعيش، والتى ينسب إليها، ولذلك نسمى المتغير بالنسبى، نسبى فى الزمان، أو المكان، أو الأشخاص، أو الأحوال.
ماذا يعنى الإيمان؟
- آمن المسلمون بمطلقية القيم، فالعدل عدل فى كل الجهات الأربع، والرحمة رحمة، والظلم ظلم، والقسوة قسوة، لا تتغير بتغير الواقع أو تبعاً لمصلحة بعض الناس دون بعض، فالإيمان بالمطلق والنسبى بهذا المعنى هو أحد مكونات النموذج المعرفى فى الإسلام، ومكون من مكونات العقل المسلم الذى يعيش به واقعَه ويرتضيه، وهذا يختلف مع نموذج معرفى آخر يؤمن بالنسبية فى كل شىء، حتى يصل بعض منهم إلى إنكار وجود الخالق، وإنكار أن يكون هناك رسالة أو وحى مقدس، ومنهم من يشكك فى هذه الحقائق، ويوجب تنحيتها عن الواقع والاعتقاد، ويصير الإيمان بالله مسألة شخصية قابلة للتعدد والتغيير والتبديل. كما تصير الأخلاق مسألة نسبية تتفاوت من شخص لشخص ومن حال لحال.
لكن هناك من لا يؤمن.
- مما لا شك فيه أنَّ عدم الإيمان بالمطلق يؤدى إلى الانهيار الأخلاقى، ويتحول الأمر إلى شريعة الغاب ونفقد معنى العدل والظلم، ونكون فى نسبية مطلقة، وتصل بك إلى أنَّ الكون حولك كما تراه، فمن يرى أن له إلهاً فهو له إله، من يرى أنه لا يوجد إله فلا إله له، ومن يرى أن العدل خير يتعامل به، ومن يراه شراً يرفضه، وهكذا، وعلى ذلك فلا بد من معايير أخرى حسب نظرتهم غير المعايير الأخلاقية حتى نقوَّم الإنسان، فتكون هذه المعايير الإنجاز أو القوة، فلا بأس عند أصحاب هذا الاتجاه أن تبيع المرأة نفسها، وأن يمارس الرجل الفواحش طالما رأى أن هذا عمل وإنجاز، وأيضاً يتغير مفهوم الحضارة، فتصير الحضارة هى الوصول بالإنسان إلى أكبر قدر من الإنتاج حتى ولو على حساب نفسه وأسرته والبيئة المحيطة به، ولو أدى ذلك إلى تدمير الكرة الأرضية، فيتحول العالم إلى وسيلة مستهلكة، وقد ظهر هذا فى الولايات المتحدة، وحاولوا أن يضعوا مبرراً لهذا فابتكروا ما يسمى بـ«النظرية التعاقدية»، فالفتاة تنتهى علاقاتها بأسرتها عند وصولها إلى مرحلة عمرية معينة، وكذلك الأب، فيوضع فى دور الرعاية إذا بلغ سن الشيخوخة، فتجد تفككاً أسرياً عجيباً، وانتشاراً لمعدلات الجريمة، ومن العجب أن تجد من يريد نقل هذه الأفكار إلينا كما هى، إذن فالمطلق هو المتحرر من جهات التغير الأربع: الزمان، والمكان، والأشخاص والأحوال، وعليه فالأخلاق كلها مطلقة، فالكذب سيظل معيباً، والصدق سيظل ممدوحاً مهما اختلفت الجهات الأربع، إلا أن الإطلاق له شروطه، وهذه الشروط لا تخرجه عن كونه مطلقاً، بل تقيد كيفية تحققه.
وماذا تعنى المنهجية؟
- المنهج فى اللغة هو الطريق الواضح المستقيم الذى لا عوج فيه، وتجديد العلوم والمفاهيم والفكر والفتوى والتطبيق يبدأ من صياغة المنهجية وبيانها، ويسمونها فى الإنجليزية METHODOLOGY، وهى أسس التفكير المستقيم، كيف نفهم النص وندرك الواقع ونربط بينهما فى تحديد الحكم الشرعى، والمنهجية نحتاج إليها فى فهم النصوص سواء المقدسة والأدلة الشرعية، أو الدنيوية، كالعقود والأوقاف والقوانين، والآن هناك علم يسمى أصول القوانين أى كيف تفهم القوانين وتصوغها، كل هذا كلام بشر، ولكنه ملتزم بسقف شرعى، وهذه الهيئة كلها مع طرق البحث وشروط الباحث نصوغ بها منهجية واضحة يتم بها المقصود، فالمنهجية هى التصرف فى أدوات الفهم لتحصيل العلم والمعرفة السليمة المطابقة للواقع.
وما الحاكم لموضوع الأسس المعرفية؟
- لا بد أن نبين الأسس المعرفية عندنا، وهى مصادر المعرفة، وهى النقل والعقل والذوق، فالنقل يأتى على رأسه الوحى، الكتاب والسنة، والعقل مقيد به أى بما وضعه من أطر، والعقل مكون من المعلومات السابقة، والدماغ والحواس السليمة، والواقع المعيش الذى أصبح جزءاً لا يتجزأ من العقل، ولا يمكن أن أفكر فى شىء يعارض سنن الله فى كونه، والعقل يميز بين الحقيقة والظاهر، فالظاهر أن الشمس تتحرك ونحن ثابتون، ولكن الحقيقة أن الشمس تتحرك ونحن نتحرك، والكون مبنى على الحركة، وتفسير هذه القواعد المعرفية يعرف بالإبستمولوجى EPISTEMOLOGY، وعلماء المسلمين الأول هم من أسس لهذه القواعد المنطقية والمعرفية، فى علم المقاصد وعلم الكلام والفلسفة الإسلامية، فالمواقف للإيجى والمطالع للأصفهانى والعقائد النسفية وغيرها يبنى أولاً على المعرفية التى منعتنا أن نعتبر وجود الله مسألة غير علمية، لأن العلم هو science الخاضع للتجريب، والله لا يدرك بالمشاهدة والملاحظة والتجريب كبقية المحسوسات، فهناك خلل واختلال فى تحديد المعرفية والمنهجية والمصطلحات، فالعلم عند الغرب مقصور على ما يدرك بالحس لا يتسع لأبعد من ذلك، ولكن عند المسلمين العلم دائرة واسعة يدخلها ما يدرك بالوحى والإخبار والدليل العقلى النظرى المعتمد على البديهيات.
وما الموقف من التراث؟
- التراث اشتمل على مسائل ومناهج، نستفيد بمسائله ولكن لا نتوقف عندها، ونأخذ مناهجه ونطورها ونُعملها من جديد فى حل مسائلنا الجديدة للوصول إلى اجتهاد مناسب ومتوافق مع نوازلنا، فإن حياد التجديد المنشود عن هدفه سببه النظرة المبتسرة الجزئية التى تنشغل بالجزئى من المسائل دون الكلى من المناهج، فينظر إلى التراث على أنه حكم على الواقع، يأخذ نتيجة اجتهاد غيره فى واقع مختلف، ولكن تفعيل مناهج التراث يأتينا بفاعلية بنتائج جديدة تحل مشكلاتنا وتسير واقعنا، فلا بد من معرفة أين نحن حتى ننتج ونتقدم ونستطيع أن نؤثر ونعرف كيف نخاطب الناس.
كيف تقيم خطورة تصدُّر من لا يمتلك أدوات التجديد فى علوم الشريعة وخطابها ليتحدث بأمور الدين بغير ضوابط؟
- الدين علم، والشريعة تخصص، ويشبه من يقحم نفسه عليها كالذى يرغب فى معالجة الناس من مرض وهو لم يدرس الطب، ويكفى لإدراك تلك الخطورة ما نهانا سبحانه فى قوله: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً»، وقول الحكماء: «من تصدَّر قبل أن يتعلم كمن تزبب قبل أن يتحصرم»، أى صار فى شبه بالحصرم الذى يظن نفسه زبيباً، والقاعدة الفقهية المشهورة: «من تعجل الشىء قبل أوانه عوقب بحرمانه».
تراث كل أمة خاصة الإسلامية ملىء بالكنوز وليس من العقل أن نتركه بدعوى تجاوز الزمان له لكن الاستفادة منه يجب أن تتواءم مع جهات التغيير الأربع "الزمان والمكان والأشخاص والأحوال"
هل المشكلة فى كتب التراث أم فى تفسيرات البعض لما ورد فيها؟
- تراث الأمة الإسلامية ملىء بالكنوز وليس من العقل ولا الحكمة أن نتركه بدعوى تجاوز الزمان له، إلا أن الاستفادة منه يجب أن تتواءم مع جهات التغير الأربع، وهذا ما يقوم به العلماء على قدر طاقتهم ووسعهم إلا أن مشكلة العصر تتمثل فى السرعة الشديدة التى نتجت من طفرات الاتصالات والمواصلات والتقنيات الحديثة بحيث إنه لم يعد الإنسان يعيش يومه كأمسه ولا يعيش غده كيومه.
هل الخطاب الدينى الحالى يتواءم مع لغة العصر وتفكير الشباب؟
- الخطاب الدينى الحالى يحتاج منا إلى تنمية مستمرة وتجديد ليتواءم مع تلك السرعة التى تكتنف لغة العصر وتفكير الشباب.
ما معايير اختيار مَن يتصدر للفتوى؟
- أولاً: أن يجيد فهم النص، سواء أكان النص مقدساً وهو مطلق ومعصوم أو نص المجتهدين، وهو بشرى يمكن الاستفادة من مناهجه، بشرط عدم الوقوف عند مسائله التى قد تتغير بتغير الجهات الأربع التى ذكرناها، ثانياً: لا بد له أن يمتلك أدوات إدراك الواقع بعوالمه المتداخلة، ثالثاً: لا بد له أيضاً أن يمتلك المَلكة التى يستطيع بها أن يوقع المطلق «النص» على النسبى «الواقع»، وذلك بإدراكه للإجماع واللغة والمقاصد الشرعية والمصالح المرعية والمآلات المعتبرة، فهذه هى صفات مَن يتصدر للإفتاء.
الإفتاء يمر بـ4 مراحل هى: تصوير المسألة بدقة ووضوح وصدق ثم تكييفها بشرط العلم والفهم ثم معرفة حكم الله فيها إما اجتهاداً وإما اختياراً فقهياً بضوابط وأخيراً إصدار الفتوى
ما مراحل الإفتاء؟
- الإفتاء يمر بمراحل أربع، أولاها: تصوير المسألة، ويشترط فى ذلك الدقة والوضوح والصدق، وثانياً: تكييف هذه المسألة ويشترط فيها العلم مع الفهم العميق، وثالثاً: معرفة حكم الله فى هذه المسألة إما اجتهاداً وإما اختياراً فقهياً له ضوابطه، ورابعاً: الفتوى ويشترط فيها تلك الثلاثة التى ذكرناها.
ما ضوابط ردع غير المؤهلين لإصدار الفتاوى؟
- قديماً كان القانون يقوم بتلك الحماية متوائماً مع الثقافة السائدة ومع مناهج التعليم، أما فى عصرنا وقد أحاطته الفوضى من كل مكان، فالإجابة عن هذا السؤال قد تكون من شأن الإعلاميين والسياسيين والقانونيين.
أين دور العلماء فى توعية الشباب؟
- أعتقد أن العلماء يقومون بدورهم ويجب أن تقوم بقية المنظومة بواجبها أيضاً.
كيف نحمى شبابنا من التطرف فى الدين؟
- بمنع تصدر غير المؤهلين، ويتم هذا عن طريق مناهج التعليم والإعلام والثقافة السائدة.
ارتباط الشباب بمواقع التواصل يتحسن يوماً بعد يوم.. وكما قال حكماؤنا قديماً "الكدب مالوش رجلين".. والناس تعودت على فرز الصادق من الكاذب وسيزداد تعودهم على ذلك
كيف ترى ارتباط الشباب بمواقع التواصل والافتراءات الموجودة عليه؟
- يبدو أن هذا الارتباط يتحسن يوماً بعد يوم، وكما قال حكماؤنا قديماً: «الكذب ملوش رجلين»، والناس قد تعودت على فرز الصادق من الكاذب وسيزداد تعودهم على فعل ذلك غداً، ويكون الأمر أفضل.
«النقاب» عادة وليس عبادة.. والزى حرية شخصية.. ولكن السؤال عن حظره داخل قاعة الدرس مسألة تنظيمية تخص جهة العمل.. وأرى ألا يتم التدخل فى ملبس الأفراد إلا لضرورة
ما رؤيتك لحكم حظر النقاب لأعضاء هيئة التدريس بالجامعات؟
- صدرت الفتاوى المؤصلة فى شأن النقاب، وأنه عادة وليس عبادة، وأن الوجه فى الصحيح من الآراء ليس عورة، والسؤال ليس عن حرية لبسه من قبل أعضاء هيئة التدريس، فالزى من الحرية الشخصية، ولكن السؤال عن حظره داخل قاعة الدرس، وهذه مسألة تنظيمية تخص جهة العمل، وأرى ألا يتدخل فى حرية الأفراد فى ملبسهم إلا لضرورة.
كيف ترى تعامل الخطاب الدينى الحالى مع قضية الطلاق والزيادة السكانية؟
- ليس الدين سبباً من أسباب الطلاق أصلاً، ولا من ازدياد قضاياه، وفى دراساتنا تبين أن سبب الطلاق يرجع أساساً إلى سبعة أسباب، منها العجز الاقتصادى، وتدخل الأهل، وعدم التواؤم بين الشريكين فى العلاقة الزوجية، وتغير التعلق العاطفى بين الطرفين، وعدم الإنجاب، وفقدان أصول التعامل، ومواقع التواصل الاجتماعى وما يسببه من سوء تفاهم.
كيف ترى الجدل الدائر حول الحجاب؟
- جدل لا طعم له ولا رائحة ولا شكل، فحجاب المرأة أمر متفق على فرضيته، فمن شاء التزم بحكم الشرع، ومن لم يشأ تحمل عاقبة المخالفة.
ما القواعد الدينية الصحيحة فى التعامل بين الرجل وزوجته؟
- قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
كيف ترى جهود الدولة فى كافة المحاور وأهمها محاربة الإرهاب؟
- منَّ الله سبحانه على الدولة بما يشبه المعجزات فى كافة المحاور، وعلى رأسها محاربة الإرهاب فلله الحمد والمنة.
هل كان من السهل إجراء الإصلاحات الاقتصادية الحالية لو كان الإخوان جزءاً من الساحة السياسية؟
- مستحيل، لأن الانتماء عندهم للجماعة مقدم على الوطن، ويطرأ من ذلك كثير من التنازع وتعارض المصالح، ولرغبتهم فى السيطرة وشهوتهم فى التسلط.
هل ترى أن هناك دوراً لعلماء الدين لدعم عمليات التنمية والإصلاح الاقتصادى؟
- نعم، لهم مهام يجب أن يقوموا بها، بل هى جزء لا يتجزأ من هيكل الجامعة حتى فى ترقية أساتذتها وأنشطة طلابها.
الجماعات الإرهابية المسجلة أكثر من 130 منها 20% فقط تحت عباءة الإسلام.. والعنف والتطرف تشكو منهما كل الدول ويعيشهما العصر بأقسى معانيها.. وليس من الإنصاف جلد الذات
وجود شباب يفجر نفسه معتقداً أن هذا سبيله إلى الجنة.. ألا يمثل إدانة ودليلاً على إخفاق المسئولين عن نشر وسطية الإسلام؟
- المسئولون عن نشر وسطية الإسلام يتخذون كل الطرق والوسائل الممكنة لعصرنا للقيام بواجبهم، إلا أن هذا العصر فى تطور اتصالاته وسرعة مواصلاته وتقدم تقنياته الحديثة، جعل الناس فى العالم كله يعيشون فى الجوار، وتموج أنفسهم وأفكارهم بخليط غير متناسق من الرغبات والشعورات والتى كانت أحد الأسباب من شيوع العنف والإرهاب بأقنعته المتطرفة حتى بلغت الجماعات الإرهابية المسجلة أكثر من 130 منظمة وجماعة منها نحو الخمس فقط 20% تحت عباءة الإسلام، فالعنف والتطرف تشكو منه كل الدول ويعيشه العصر بأقسى وأقصى معانيه، وليس من الإنصاف فى شىء جلد الذات وإلقاء التهمة، لأن ذلك سيؤدى إلى «التغبيش» على الأسباب الحقيقية من ناحية، وإلى الإحباط بين من يؤدون دورهم من ناحية أخرى، فلا تحل المشكلة بل تزداد تعقيداً، وليكن هذا المبدأ والحقيقة القرآنية التى عامل الله بها الإنسان نبراساً لنا فى هذا المجال «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها».
إذن، ما الأسباب التى تدفعهم للانتحار بتفجير أنفسهم؟
- السبب الرئيسى فى عمليات الانتحار، هو الجهالة فى تعلم الدين من أهله، والذى يؤدى إلى الفهم الخطأ المهلك، وأيضاً هؤلاء المنتحرون مشربهم العنف حتى لو لم يكونوا متدينين بأى دين، وأيضاً لا ننسى الظروف، والأسباب السياسية واختلاف الثقافة العامة، مع هذا الانفتاح الذى أشرنا إليه.
كيف ترى شذوذ المتطرفين الفكرى الذين يلوون النصوص لخدمة إرهابهم واستقطاب أتباعهم؟
- هناك دوائر بعضها أضيق من بعض وهى متداخلة، أولها دائرة التشدد، يتطور فيها المتشدد إلى متطرف، ويتطور المتطرف إلى إرهابى، ثم يتطور الإرهابى إلى مفسد فى الأرض، وهذه الدوائر الثلاث الأولى هى ما نسميه بالشذوذ الفكرى، لأن التشدد ضد الحياة، والدين جزء من الحياة، فسوف يصطدم التشدد بالدين، فلا ننسَى قوله تعالى: «وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ»، والمتطرف يرفع راية الدين وهو مخالف لنصوصه ويصدق فيه قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ»، والإرهابى ثم المفسد استعظم الله سبحانه وتعالى جريمتهم، فقال: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ»، واستقطاب الأتباع إنما هو بسبب البعد عن محاضر الدين وحواضره، وعدم التفرقة، التى يغذيها كثير من الإعلاميين بين التدين والدين، فحقيقة الدين أنه علم أما التدين فسلوك، ويريد كثير من الكاتبين والمتصدرين أن يتعاملوا مع الدين على أنه كلام مباح يعرفه كل أحد ويدلى بدلوه فيه من يشاء، وهذا عين ما سلكه المتطرفون الإرهابيون فى تعاملهم مع الدين باعتباره ليس علماً، وأنهم قادرون على فهم مراد الله سبحانه وتعالى، والمصيبة أنهم يرون أن ما فهموه بأفهامهم الكليلة هو الحق المطلق، ومن هنا تتبين هذه المفارقة التى يساعد فيها الإعلام من غير ما يدرى المتطرفين والإرهابيين بثقافة سائدة كانت سبباً فى كثير مما يحدث.
التشدد والإلحاد وجهان متلازمان للإفراط والتفريط.. ما السبيل لمواجهتهما؟ وما حدود المسئولية التى تقع على عاتق المؤسسات الدينية والمثقفين؟
- نعم هما كذلك، إلا أننى أراك تجعل هذه المشكلات من مهام المؤسسات والمثقفين وأنا أخالفك الرأى، هذه مهام أمة لها جانبها السياسى والتربوى والإعلامى والفكرى والأمنى والمجتمعى، لا نريد أن يعتقد الناس أن المؤسسة الدينية أو المثقفين يملكون عصا سحرية يستطيعون بها حل المشكلات التى ينبغى للأمة كلها أن تقوم بواجباتها إزاءها.
لكن هناك من يروج لهذا الفكر؟
- تحاول بعض الجماعات السياسة المتسترة وراء الإسلام أن تختزل كل ذلك فى إثارة مثل هذه القضايا، التى قد لا تتسق فى عصرنا الحاضر مع الواقع، كما اتسقت قديماً، ومن هذه المسائل مسألة الخلافة، والتى ميز لنا رسول الله «صلى الله عليه وسلم» فى حديثين أحدهما أخرجه أحمد فى مسنده، وقال فى نهايته: «فإن لم يكن فى الأرض خليفة فالهرب الهرب»، والآخر أخرجه البخارى وفى نهايته: «فإن لم يكن فى الأرض إمام، فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن يأتيك الموت، وأن تعض على جذع نخلة مؤمناً بالله واليوم الآخر»، ففى الحديث الأول استعمل كلمة الخليفة، وفى الثانى: الإمام، وهو ما يكون مجمعاً للأمة أو للدولة وليس الخليفة، ولم يأمرنا «صلى الله عليه وسلم» بتكوين جماعات، بل أمرنا بالتربية والدعوة إلى الله، فقال فى أحاديثه: «فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة» ومن مجمل ما ورد فى سنة رسول الله «صلى الله عليه وسلم» يتبين بجلاء عدم شرعية هذه الجماعات، سواء تبنت الإرهاب أو العنف أو سعت إلى الحكم، حيث يرون لأنفسهم والعياذ بالله حولاً وقوة، ورسول الله «صلى الله عليه وسلم» يقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز العرش»، وسعيهم للحكم مخالف للحق: «تُؤْتِى الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ»، وقوله «صلى الله عليه وسلم»: «إن هذا الأمر لا نولّه من طلبه».
الرئيس يحمل همَّ مصر ويريد أن ترجع لها الريادة مستفيداً من تجارب الماضى والحاضر.. ولا يلتفت كثيراً إلى الضجيج الإعلامى.. ولا أرى فجوة بين خطابه ودعوته للتجديد وتحركات المؤسسات الدينية
كيف ترى مطالب الرئيس السيسى بتجديد الخطاب الدينى؟ وهل هناك فجوة بين خطابه وتحركات المؤسسات الدينية؟
- الرئيس يحمل هم مصر ويريد أن ترجع لها الريادة والقيادة، مستفيداً من تجارب الماضى والحاضر، ولا أرى فجوة بين خطابه ودعوته للتجديد، وتحركات المؤسسات الدينية، سواء منها الظاهر لعموم الناس، أو الذى يتم فى هدوء، وخطوات متئدة لا تلتفت كثيراً إلى الضجيج الإعلامى، ولا إلى طلب الجزاء والشكور «لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً»، فهناك اتساق تام بين المرادات العليا لقيادة الدولة، وبين قيادات المؤسسات الدينية، إلا أننا دائماً نتمنى المزيد، ودائماً نستشعر حاجتنا إلى العمل المتصل، ولا نظن أن عملية التجديد لها نهاية، بل هى دائمة النمو والتطور تبقى ببقاء الأيام.
التشدد يأتى لظروف خاصة يتم استغلال الدين خلالها.. فهل يمكن تصفية الآراء الدينية المتشددة حتى لا يكون الدين مستنداً للمتطرفين؟
- بدون شك يمكن تصفية الآراء الدينية المتشددة والتحذير منها، والأزهر وجامعته والإفتاء والأوقاف، قامت بمجهودات ضخمة منذ سنوات وإلى الآن، وبصورة مستمرة للرد على هذا الفكر فى «أصوله، فروعه، أسبابه، نتائجه فى إجماله وتفصيله»، وطبعت هيئة كبار العلماء لى هذا العام كتاباً عن مواجهة الفكر المتطرف، وكنت قد ألفت قبل ذلك كتابى «المتشددون والبيان لما يشغل الأذهان»، وأشرفت على كتاب الرد على خوارج العصر فى خمسة مجلدات، وكتب «موسوعة تصحيح المفاهيم، فقه حب الحياة، التعايش، الأمن المجتمعى، حكاية الإرهاب، مكونات العقل المسلم»، وغيرها بما يطول سرده وأنا واحد من عشرات، ولا أبالغ إن قلت مئات من العلماء فى مصر خاصة وفى العالم الإسلامى عامة، تصدى وفند ورد على جميع المستويات على هذا الفكر، سواء مستوى الوقاية منه، أو بيان أصوله أو أسبابه أو الرد على مسائله أو البحث فى نتائجه، وبيان مخالفة كل ذلك لدين الله ظاهراً وباطناً، وعلى الرغم من هذه المكتبات الهائلة التى أُلفت والتى وضعت على المواقع الإلكترونية والشبكة العنكبوتية، وعلى البرامج الإعلامية، وما كُتب بكل اللغات من مئات الآلاف من المقالات، فإننا لم نتوقف ونتطور من هذا الخطاب حتى يكون موائماً للواقع شديد التغير، شديد التعقيد، شديد التطور، شديد التدهور أيضاً، ونحن ندعو الناس إلى العودة للقراءة، وأن يلتفتوا وينتبهوا لعدم ملء الدين نفسه، فإن الحياة لا تصلح إلا بالدين وهدمه لا يؤدى إلى إلغاء التطرف، بل إلى تطرف معاكس تأباه فطرة البشر وقواعد الاجتماع البشرى بالإضافة إلى أنه يوجب لغضب الله سبحانه وتعالى.
الفكر السلفى كان محدوداً فى مصر إلى السبعينات وحتى حرب أكتوبر.. ومع ارتفاع أسعار البترول فُتحت الخزائن لتأييده وهو مخالف لمجريات الحياة.. وعندما دعونا الناس لتركه كانت النتائج رائعة
ينتشر الفكر السلفى بين بعض الأزهريين.. كيف ترى ذلك؟
- الفكر السلفى كان محدوداً فى مصر إلى السبعينات وحتى حرب أكتوبر، ومع ارتفاع أسعار البترول فتحت الخزائن لتأييده وهو مخالف لمجريات الحياة، ولذلك لا يبقى كثيراً حتى يصطدم بما يسميه العلماء بحائط القدر، ولذلك عندما دعونا الناس لترك هذا الفكر كانت النتائج أكثر من رائعة، ورجع الناس إلى مذهب أهل السنة والجماعة والذى يتبناه الأزهر منذ عصر صلاح الدين وإلى يومنا هذا.
لماذا ساءت صورة الإسلام بالخارج؟ وكيف تعمل دار الإفتاء على مواجهة الأفكار المغلوطة؟
- عندما دخلت مصر بلاد أوروبا فى القرن التاسع عشر وبنيت المساجد والمراكز الإسلامية فى حواضر أوروبا وأمريكا، لم يشكُ أحد فى العالمين من الإسلام، وكان ميراث فترة ما سميت بالحروب الصليبية وفترة بروز فكرة الاستشراق فى القرن السابع عشر الميلادى، والاستعمار فى القرن التاسع عشر سبباً فى بذرة هذه الصورة التى تخالف الواقع، والتى ترتبط بالمصالح أكثر من ارتباطها بالأفكار المستقيمة والمنطق الفكرى، فلما تمكن الفكر السلفى المتشدد بعد حرب 73 فى تلك الحواضر، وبعد نحو مائة وسبعين سنة من وجود الإسلام فيها وخلال نحو ربع قرن، وجدنا البنايات فى نيويورك والصدام يشتعل، فقدم هؤلاء المساكين ما لم تستطع أموال الدنيا أن تقدمه لنمو بذرة الصورة السيئة التى تولدت فى السابق، وتمادى هذا النمو وفاتنا كثير من الفرص الضائعة التى كان يمكن استغلالها، والتى كان الإرهابيون بدون تعقل منهم وبتصرفاتهم الحمقاء يقضون عليها، ودار الإفتاء بدأت فى الفضاء الإلكترونى بنحو سبع لغات منذ أكثر من 15 عاماً، ثم كونت دار الإفتاء العالمية وأنتجت نموذجاً يحتذى فى القضاء على الفارق، الذى كان شائعاً بين ما يمكن أن يطلق عليه الإسلام الشعبى والإسلام الحكومى، وهو ما نجحت المؤسسات الدينية بمصر فى القضاء عليه وعلى تلك الصورة المغلوطة فى الداخل والخارج تماماً.
التفكير والتكفير وجهان لعملة واحدة عند الإخوان الذين يعيشون واقعاً سرياً قائماً على قاعدة الحول والقوة.. وحتى لو بقى لهم وجود سيكون باهتاً وتافهاً وسنظل فى مواجهة الشر
هل انتهى الفكر الإخوانى؟ أم ما زلنا فى مواجهته؟
- الفكر الإخوانى مبنى على عدة قواعد أولها يسمى بالهرم المقلوب، وهو أن تجعل قمة الهرم فى الأسفل وقاعدته فى الأعلى، وهو وضع لو نفذ فى عالم الحس لانهدم الهرم، وهو مبنى على نظرية تتالى الأجيال، فكل جيل يأتى «أخس» من الجيل الذى قبله ومبنى على مخالفة الظاهر للباطن، فهناك خطاب للناس وواقع سرى يعيشون به وفيه، وهو مبنى أيضاً على قاعدة الحول والقوة، ومبنى على شىء غريب قد لا يصدقه كثير من الناس، وهو أن التفكير والتكفير وجهان لعملة واحدة عندهم، فكأن التفكير حرام وهذه المبادئ لن تنتهى لأن الشر لا ينتهى ولأن الجهل لا ينتهى ولأن المرض لا ينتهى، بل هى عرض من أعراض الحياة، حكمتها الابتلاء والاختبار، عندما ألقى الزعيم جمال عبدالناصر القبض على هذه العصابة كان عدد المقبوض عليهم 18 ألفاً وكان سكان مصر 18 مليوناً يعنى واحد من كل ألف، ووجد أن العصابة المقتنعة باغتياله 2600، فأفرج عن الباقى ووجد أن من اشترك فى الجريمة أو كان عالماً بها والباقى لا يدرى عنها شيئاً، وإن كان موافقاً وراضياً فقدمهم للمحاكمة، ولا تزال هذه النسب كما هى إلى يومنا هذا فإذا كنا أصبحنا 100 مليون، فالمنظمون منهم 100 ألف لا يزيدون ولا ينقصون فى الداخل والخارج، والذين يعلمون بواطن الأمور منهم لا يزيدون على الـ5 آلاف والذين ينفذون منهم لا يتجاوزن الألف، أما المتعاطفون فأبداً لم يزيدوا على ثلاثة أضعاف هذا العدد ويتركون التعاطف بمجرد معرفتهم حقيقة هذه العصابة، يظنون أولاً أنهم من أهل الله أو الديانة، ثم بعد ذلك يكتشفون حالهم ونحن سنظل فى مواجهة الشر، لكن هذه الجماعة لن تقوم لها قائمة حتى لو بقى لهم وجود، فإنه باهت وتافه وسنبقى فى دراستهم وتفنيد ما هم عليه من ضلال، كما فعلنا بالخوارج، والذين ذهبوا إلى غير رجعة حتى ظهر الفكر السلفى ومن خلاله ظهرت جماعة الإخوان.
حرب الإخوان على مصر "سبوبة" توجد كلما وُجدت الدولارات وتذهب عندما تنفد.. ولذلك لا يمثل ما يقومون به من مبكيات أى خطر على الدولة أو الشعب الذى اكتشف كذبهم
ما رأيك فى استمرار حرب الإخوان على مصر رغم علمهم بفشلهم أمام إنجازات الدولة؟
- فى العامية المصرية، كلمة عبقرية هى «سبوبة»، ويعنون بها أنها مصدر من مصادر الرزق، يوجد كلما وجدت الدولارات، ويذهب عندما تنفد، ولذلك لا يمثل ما يقومون به من مضحكات، وهى فى الحقيقة مبكيات، أى خطر على الدولة أو الشعب الذى اكتشف فجاجة غباوتهم وكذبهم الذى يكذبون فيه على أنفسهم، أما نحن فنقول: «حسبنا الله ونعم الوكيل سيؤتينا الله من فضله ورسوله».