لو كان السمع والطاعة رجلاً لقتلته، ولو كانت الثقة فى القيادة ديناً لكفرت به، فبالسمع والطاعة عاد الرق إلى حياتنا ولكن بصورة يبدو وكأنها تتفق مع الإسلام، وبالثقة فى القيادة ضل من ضل وغوى من غوى، وتقدس ناسٌ هم أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، وتعالم علينا ناسٌ هم أقرب إلى الجهل منهم إلى العلم، وأصبح كلاهما من أصحاب الفضيلة الذين يسعى الأتباع حين يرونهم إلى تقبيل الأيادى والأكتاف! وبتلك الآفتين صار الأتقياء مستبدين، والأحرار عبيداً، ومرق ناسٌ أخلصوا النية لله من عبودية الله وحده إلى عبودية الناس، وبتلك الآفتين عُمِّىَ ناسٌ عن أن الإخلاص والنية وحدهما لا يكفيان لكى يتقبل الله العمل بل يجب أن يكون الصواب مصاحباً لهما.
ومن خلال تلك التهيئة النفسية استقبل شباب الإخوان الغِرُّ ومن والاهم فكرياً وحركياً الأفكار التكفيرية على أنها «دين» وعلى أنها «ذروة سنام الإسلام»، وأذكر أنه منذ أكثر من عشرين عاماً كنا نحضر كتيبة إخوانية موحدة للمنطقة كلها فى بيت حسن مالك بالمنطقة الثامنة بمدينة نصر -وهى نفس الشقة التى تم القبض فيها على خيرت الشاطر بعد ثورة الثلاثين من يونيو- وكان الحشد لهذه الكتيبة على أشده، وكانت التنبيهات على الجميع بأنه لا ينبغى لأحد أن يتخلف عن هذه الكتيبة مهما كانت الظروف، وكان المحاضر فى هذا اليوم هو النجم الإخوانى الصاعد وقتها خيرت الشاطر، وكان قد تقلد مسئولية محافظة القاهرة إخوانياً وفى ذات الوقت كان قد تم تصعيده ليكون عضواً بمكتب الإرشاد، وهنيئاً لمن كان مقرباً وقتها من الحاج مصطفى مشهور! وحين بدأ «خيرت» المحاضرة سكت الجميع، فـ«خيرت» كان يتحدث عن هجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) من مكة إلى المدينة، ثم إذا به يأخذ من دروس هذه الهجرة ليطبقها على الواقع الذى نعيشه، فتحدث عن دولة الكفر ودولة الإيمان، وقال إن الإيمان بالإسلام ليس أمراً شكلياً أو مجرد نطق للشهادة ولكن يجب أن يؤمن الأخ بالحاكمية ويعمل من أجلها، إذ الإيمان وحده لا يجدى، وبغير ذلك لا يكون مسلماً، واستدل بالآية الكريمة {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، والآية {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}، واسترسل فى شرح المعانى المستمدة من هاتين الآيتين وأنزلهما على واقعنا الذى نعيشه.
كانت الأفكار التى طرحها «خيرت» وقتها مأخوذة من كتاب سيد قطب «معالم فى الطريق»، ويبدو أن «خيرت» كان يحفظ الكتاب عن ظهر قلب، إذ كان يقرأ فقرات طويلة منه دون أن ينظر إلى ورقة أو كتاب، أعجبتنى محاضرة «الشاطر» وقتها، فقد كان عرضه رائقاً سلساً، إلا أن بعض عباراته، مثل «كفر المجتمع وجاهليته»، أوقفتنى، فقد قال إن المسلم يخرج من رِبْقة الإيمان إن قام بتحكيم القوانين الوضعية دون شرع الله، وإن المجتمع كله مجتمع جاهلى لأنه يقبل أن يُشرع له مجلس الشعب قوانين فيكون بهذا قد أشرك بالله، وإن مرحلة الاستضعاف لها فقهها، ومن فقه هذه المرحلة قبول ما لا يجب قبوله فى ظل دولة الإسلام وفقاً لقاعدتى «الضرورات تبيح المحظورات» و«ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، وإننا نلج أبواب الجاهلية ظاهرياً لندخل منها إلى دولة الإسلام! فعدت إلى كتاب «معالم فى الطريق» أنهل منه إلا أننى وجدت فيه أموراً لم أستسغها ولم يتقبلها منطقى، وأعدت ما سمعته من «خيرت» على قلبى وعلى منطق «الدعاة لا القضاة» فوجدت البون شاسعاً.
ومرت السنوات والسنوات وحدث فيها ما حدث من وقائع وتصاريف وقيَّض الله لى أمر الفرار بعقلى من تلك الجماعة المستبدة، وقامت الثورة وقال الإخوان: «سبحان الذى سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين»! ثم ركبوا الثورة واستغلوها لمصلحتهم من باب «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، ولكن قانون الله وسنته فى كونه لا بد أن يقع فكما تدين تدان، وكما ركبت الثورة لنفسك لا لدينك ووطنك وقعت من فوق كرسى الحكم مفضوحاً ممقوتاً من الناس، والله أعلم بوضعك عنده فهو علام الغيوب. وكان «خيرت» قبل ذلك بسنوات هو ورفيقه محمود عزت ومن معهم قد قاموا بتربية الشباب الغِر على شاكلتهم، فكأنهم يقلبون الجورب على الناحية الأخرى ليبدو لنا جديداً وما هو إلا ذاته الجورب القديم.
وسبحان الله الذى يلقى الحب فى القلوب وينزعها منها، ويجعل ما فى القلوب منطبعاً على الوجوه، فترى الرجل ولو كان دميماً وكأنه نور يمشى على الأرض، وترى الرجل وإن كان وسيماً وكأنه الشيطان بعينه، وكم من وجوه أحببناها كالشيخ الشعراوى (عليه رحمة الله) دون أن يكون وسيماً، وما ذلك إلا لأن الله (سبحانه) يعطى الإنسان الوجه الذى يستحقه ثم يجمله أو يقبحه فى عيون الناس، وأظن أن ذلك كان سبباً لانقباض قلبى الدائم كلما رأيت «خيرت» وأنا فى «الإخوان» أو بعدها، فهو- كما رأيناه دائماً- غليظ القسمات مكْفهِرٌّ، وحين كنت أتحدث معه كنت أتصوره آلة من حديد لا قلب لها، حتى إن معظم القرارات الإخوانية التصادمية التى أخذها «مرسى» وهو يحكم كانت من «الشاطر»، وما كان «مرسى» بسحنته ذات البلادة إلا عبداً تابعاً لـ«الشاطر».
صدق إذن من قال إن إسلامنا غير إسلامهم، فإسلامهم دين لا نعرفه يقوم على الاستعباد والرضوخ والتكفير؛ الأعلى يستبد والأدنى يرضخ، أما إسلامنا فهو إسلام العزة والحرية والتفكير، يكفى أن إسلامهم لا يقوم إلا على شاطر ومشطور وبينهما مرشد، وإسلامنا لا يقوم إلا على القرآن الكريم وسيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم).