عنبر العقلاء
بعد تخرجي وزواجي وانحسار الحياة في زوج وأولاد وأسرة صغيرة وجدت متنفسي الوحيد هو أمي وإخوتي، نعم كنت مرتبطة بهم إلى حد كبير وازداد ارتباطي بهم بعد زواجي وتضاعف مسؤولياتي، وكان لنا بيت عائلي كبير ولكل أخت منزل مستقل، ولكن لضعف الإمكانيات وصعوبة الحياة لم أستطع الانتقال سريعًا لمنزلي مع أمي بسبب التكاليف الباهظة التي تتطلبها "التشطيبات".
وصبرت وأنا أحلم بالانتقال إلى بيت العائلة لأكون أكثر قربًا وقدرة على الالتقاء بأمي وإخوتي،وكنت أعاني في الذهاب والعودة وانتظار زوجي لساعات طويلة من الليل عند أمي فيأتي ليأخذني أنا وأولادي وهذا نائم على ذراعي وتلك متعبة وهذه لا تريد ترك جدتها، فترقع بالصوت الحياني: "مش عايزة أمشيييييي"، وتحمّلت كل هذا من أجل أمي وإخوتي وسبقني البعض للسكن في بيت العائلة.
وأخذت أدخر من هنا وهناك وأرتب أموري حتى اقترب الحلم وبدأنا نجهّز منزلنا لنستقرّ به؛ فلا مواصلات شاقة بعد اليوم ولا تعب ولا فراق ولا اشتياق، وأصابني الذهول من أول يوم، فلم يغمض لي جفن في بيتي الجديد ولو لحظة واحدة وأولاد إخوتي يدقون الجرس بلا انقطاع، هذا يريد أن يلعب مع ابني وهذه تريد شماعة خشبية وتلك تسأل عن حزمة نعناع وهذا يحب صوت الجرس ولا يريد حرمان نفسه أو حرمان الآخرين من نغماته، ورغم حبي الشديد لهم إلا أنني صرخت بهم في نهاية اليوم طلبًا للسكينة والهدوء وعطّلت الجرس خصيصًا لتنتهي هذه المهزلة ولكنها لشديد الأسف لم تنتهِ، فالسلم لم يخلُ أبدًا من الأولاد وهم يركلون الكرة ويصرخون وينادون بعضهم البعض ويصيحون بابني كي يفتح لهم الباب، وهجووووم لم أتوقعه بالمرة.
ووجدت منزلي الجديد والذي صرفت عليه "دم قلبي" أنا وزوجي، وأصبح ملعب كرة أو لنقل عنبر للعقلاء وابني "زي العبيط فرحان وبيضحك" وخد وهات حتى أصبح رأسي كالبالون الفارغ ولم تنتهِ الطلبات "عايز بيضه.. خليهم اتنين.. ساندويتش حلاوة.. اتنين مربّة.. عصير تفاح.. عندكو ملوخية.. باحب البطييييخ".
ولم أتحمّل أكثر من هذا فاتصلت بأختي في المنزل المقابل أستغيث بها فقالتلي بدهشة بالغة "عجيبة.. كانوا عندي طول الوقت وعملوا أشد من كدة وسيبتهم براحتهم ومفتحتش بُقْيِ" واكتشفت أن المشكلة بدون حلّ تقريبًا، وحتى عندما استقرّ الأطفال في بيت أختي التي في الدور العلوي زادت المشاكل، ابنتها الصغيرة لا تحب ابني الوديع ولا تريده أن يلعب عندها وباختصار لا تريد رؤيته بالمرة ووجدته يأتيني باكيًا بلا انقطاع وأنا أحاول حلّ المشكلة بلا جدوى وأخشى أن ينتبه زوجي للأمر فيحمل في نفسه أمورًا لا تستحق الوقوف عندها، وخاصة عندما جاءني المسكين مبطوحًا في رأسه "ومعضوض ف كتفه"، ووجدتني في حالة من الغضب لأقسم بعظيم الأيمانات ألا يخرج من باب البيت مرة أخرى درءًا للمشاكل، وها أنا أصوم ثلاثة أيام تكفيرًا لليمين وابني سارح في العمارة لا أعلم في أي منزل هو أو ربما يكون مطرودًا من العمارة كلها وأنا لا أعلم، وبينما اجرّ قدميّ جرًا وأنا أدق باب أمي لأحصل منها على بصل وطماطم كعادتي سمعت صرخة مدوّية لابني، ووجه ابنة أختى الصغير المتمرّد يطل عليّ من بير السلم وهي ترفع كتفها وحاجبها بلا مبالاة وتقول بملء فمها "إيييه.. عضيته" فنظرت إليها بيأس ولسان حالي يقول "ولا يهمّك يا حبيبتي.. خدي راحتك ع الآخر لينا رب اسمه الكريم".