«من مقاعد المتفرجين» كان العنوان الذى يكتب تحته أستاذنا رءوف توفيق فى مجلة «صباح الخير» لسنوات طويلة ليعلمنا كيف نشاهد فيلماً.. صحيح أن العنوان قد يوحى للوهلة الأولى بمشاهدة عادية لمتلقٍّ غير دارس أو غير محترف، لكن الحقيقة أن رءوف توفيق كان يأخذ بوعى وحواس المشاهد بدراية وحنكة الخبير.. أستأذن فى استعارة «من مقعد متفرج» عادى، غير متخف ولا يدّعى امتلاك أدوات النقد المتخصص، لكنه يحب السينما، لأكتب شاكرة أصحاب فيلم «صاحب المقام» لمحاولتهم استعادة ناصية فى الوجدان المصرى، تكاد أن تتوه أو تضيع تحت وطاة تحولات أفرزت نوعاً من الجهالة بزوايا فى الروح المصرية. بقدر ما استبشرت بالفيلم، بقدر ما أرّقنى ما يمكن أن أسميه «الفهم الحرفى» للفيلم.. أو التعامل معه «كنص جامد» مفصول عن سياق مصرى روحى، لا يعنى بالضرورة اتخاذ «وسيط» بين المصرى وربه.. أرّقنى الذين فصلوا الفيلم عن سياق روحى مصرى، متواصل، «يأنس» فيه المصريون إلى «آل البيت»، وإلى أتقياء، فى وهن الحاجة الإنسانية، وهشاشة ضعف البشر، أرَّقتنى حالة تلقٍّ للفيلم تغافلت عن موروث مصرى شعبى، لا ينحصر فى فئة اجتماعية ولا مستوى اقتصادى، حين تلم به «شدة» يندر ندراً للسيدة، ويقول «شى الله يا حسين».
الفيلم يحكى عن حالة «مكوك بشرى»، أو رجل أعمال فى حالة انهماك مستديمة فى العمل والبيزنس، أفقدته أى تواصل، وأى جزئية أخرى فى الحياة، وتكاد أن تكون قد كسرت جسوره، وباقى نوازع الحياة، فكل ما عدا صفقاته وعمله لا يكاد حتى أن يراه، حتى الابن والزوجة، لا تستطيع أن تضعهما ولو فى الهامش، حياته لها بؤرة وهامش وحيدان هما ذاته المتكالبة على الكسب والصفقات وملحقاتهما، فلا اعتبار إلا للكسب، ويحدث أنه وهو إزاء بناء «كومباوند سكنى» أن يظهر «ضريح» فى الأرض، فلا يتوقف مشروعه ويقرر هدم الضريح، وربما يتخفف فى هذا «الأوج» الميكانيكى، تصاب الزوجة بإصابة فى المخ، وتسقط صريعة تيه عميق، تيه «غيبوبة» تطول. هنا يواجه «المكوك البشرى»، الذى لا بد وأن تكون قد استشعرت ما يحسه ويتخيل امتلاكه من سطوة وقدرة على كل شىء، يواجه «لحظة عجز» ويذوق معنى «قلة الحيلة»، فلا يستطيع لا المال ولا العلم تفسير ما أصاب زوجته.. الطب لا يعطى تفسيراً دقيقاً لاستمرار غيبوبة الزوجة مع أن المؤشرات نظرياً تقول ألا شىء يعوق الإفاقة. باختصار يتجه المكوك البشرى إلى تجربة ربما ما لم يكن يراه أو يعترف به، يذهب إلى ضريح الإمام الشافعى بإيعاذ من أحد شريكيه، ونعرف أن أباه كان يصطحبه صغيراً للضريح، وهناك يلتقى بأحد معارف والده القدامى الذى يتعرف عليه، وهو رجل له وشائج قوية بالضريح يكون السبب فى وضع رسائل اللاجئين إلى الإمام الشافعى بين يدى هذا المكوك المستقوى، ففى لحظة وقوفه أمام الضريح، تقع عيناه على الجوابات التى أرسلها البشر المتعبون، «العشمانين» فى الله والمتوسمون فى الله.
الشعور بالعجز وفضح فساد فكرة القوة المادية «الغاشمة»، وربما «الغشيمة»، يدفع المكوك البشرى لمحاولة أن يجرب طريقاً لم يره ولا اعترف به، فيبدأ فى محاولات مساعدة أصحاب هذه الرسائل التى كانت مرسلة إلى الإمام الشافعى، واطلع عليها. فى هذا السياق تولد وشائجه ربما للمرة الأولى مع «التعب الإنسانى».. يعى وجود «آخر».. حتى توظيف فكرة لها أصل عند أستاذنا الكبير سيد عويس، وهى رسائل المصريين للإمام الشافعى، أريد بها مقصد إنسانى يخص فيلم صاحب المقام وهو ببساطة: جرّب تفرّج كرب الناس يمكن ربنا يفرّج كربك.
لا أملك مساحة لتفاصيل «الوصل» الذى جرى بين المكوك «المستقوى» أو المستعفى وحيوات البشر فى ذروة تجلى الضعف، لكن على قدر إدراكى المتواضع كانت لحظة أشبه بلحظة التنوير أو الإفاقة فى الدراما، وفى دراما الحياة، أتكلم كمواطنة مصرية، بنت طبقة متوسطة، تعلمت فى مدارس خواجات، ولفيت بلاد، واحتفظت بوشائج مع قرية أبويا، وبكل خلطة الدراسة فى مدرسة راهبات ودراسة الفلسفة والأدب الفرنسى وتجذر علاقتى بالريف والانفتاح على الدنيا لا أشعر بأى تنازع ما بين طلب المدد من سيدنا الحسين، وبين تذرعى بالصلاة إلى الله. أعتبر أن علاقتى بالله لا تخص أحداً غيرى، ولا أطمئن بغير العكوف بين يدى الله وأؤمن بالعلم والعقل والمنطق وكل اللى انت عاوزه، لكنى لا أكف عن طلب المدد وزيارة آل البيت.
العلاقة بين المصريين والأضرحة ليست تخلفاً ولا معاداة للعلم، والمكوك البشرى لم يستبدل العلم بالضريح وفيلم «المقام» لا علاقة بينه وبين الفكرة التى طرحها أستاذنا العظيم يحيى حقى فى قنديل أم هاشم.. ثمة منطقة ما بين السماء والأرض، يلجها المصرى حين يزور ضريحاً أو مقاماً، منطقة من خواص «الروح المصرية»، مسلماً كان صاحبها أو مسيحياً، هناك دراسات أكاديمية جادة توجهت لمحاولة الفهم لتلك المنطقة.. اقرأوا جمال الغيطانى.. اقرأوا شحاتة صيام.. اقرأوا سيد عويس فى سياقه الأكبر لفهم المجتمع المصرى.