فى القرن الحادى والعشرين الميلادى، والذى يوافق القرن الثالث والستين المصرى.. الاكتشافات الأثرية المصرية لا تنتهى، وأسرار الفراعنة لا تذبل، والانبهار العالمى لا ينقطع.
وفى الوقت الذى يجرى فيه اكتشاف مومياوات جديدة، وآثار فرعونية للمرة الأولى، فإن دراسات الثقافة الفرعونية والفكر المصرى القديم تتوالى بشكل كبير.
لقد بذل الكثيرون جهداً مميزاً فى إحياء الأدب الفرعونى، وهناك مؤلفات مهمة فى هذا الصدد، مثل كتاب العلّامة سليم حسن «الأدب المصرى القديم»، وكتاب «دون ناردو» الذى يحمل اسم «الأساطير المصرية». وقد نشر موقع «ولاد البلد» فى ديسمبر 2017 (28) سياقاً أدبياً فرعونياً تدعو للدهشة والتقدير.
كما نشر بعض الباحثين دراسات عن «الفكر القانونى فى مصر الفرعونية»، وهى دراسات تتجاوز الحجر إلى البشر، وتشرح تطور الجهاز السياسى والإدارى، وبناء المنظومة القانونية للبلاد فى ذلك الوقت المبكر من التاريخ.
وتضاف دراسات «الفكر القانونى الفرعونى» إلى دراسات «الأخلاق الفرعونية»، ومن بينها كتاب الدكتورة «شاهيناز زهران».. «الأخلاق فى الفكر المصرى القديم».
إن من يتأمل اليوم نصوصاً فرعونية رفيعة مثل قولهم: «احذر.. إن الأبدية تقترب»، «لا تُكثر السعى من أجل نفسك.. حتى لا تصبح مكروهاً»، أو وصية «الحكيم سنب» لابنه: «أَعِدَّ نفسك لتكون كاتباً.. لا يخطّ قلمك إلّا الحكمة والمعرفة، وما ينفع الناس». وغير ذلك من نصوص بديعة قبل زمن بعيد.. يدرك قول «جيمس هنرى بريستد» الحاسم «إن مصر هى فجر الضمير الإنسانى».
ثمّة فروع للأدب الفرعونى، هناك ما يتعلق بالأدب الدينى، وما يتعلق بأدب الحكمة، والأدب التربوى، وما يتعلق بأدب الرسائل وأدب السير الذاتية، فضلاً عن «الشعر الفرعونى» الذى يضم ما تضمّنه النثر من قضايا وموضوعات.
لقد اخترع المصريون الكتابة، كما كانوا أول من قام بتصنيع الأقلام، والكتابة على ورق البردى. وقد ظل المصريون من دون منافس لأزمان طويلة. وكمْ كان العالمُ محظوظاً بفضل الجهود التى بذلها الفيزيائى البريطانى «توماس يونج» ومن بعده العالم الفرنسى «جان فرانسوا شامبليون» فى فك رموز اللغة الهيروغليفية، والكشف عن ذلك المجد التليد.
منذ ذلك الحين وهناك جديد لا ينقطع بشأن استكشاف ذلك التاريخ المذهل. ولقد كان من بين ذلك ما جرى إحياؤه فى العقد الأخير من القرن العشرين بشأن الموسيقى المصرية القديمة. فى عام 1990 بدأت فكرة «إحياء الموسيقى الفرعونية».. وفى عام 2002 انعقد أول مؤتمر علمى لإحياء الموسيقى الفرعونية بمشاركة (7) دول، وفى عام 2007 بدأت كلية التربية الموسيقية جامعة حلوان منح أول دبلومة فى دراسات الموسيقى الفرعونية.
قاد أستاذ التربية الموسيقية الدكتور خيرى الملط تلك الرحلة الناجحة لأجل إحياء الموسيقى الفرعونية. وقد نجح ذلك الأكاديمى الجاد وتلك النخبة الماهرة المحيطة به فى الوصول إلى ما كان يبدو مستحيلاً.
لقد جرى إعادة تصنيع الآلات الموسيقية الفرعونية، بالأحجام والتصميمات التى كانت عليها قبل عشرات القرون. وتمكّن ذلك الفريق، بالتعاون مع خبراء من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا وكوريا الجنوبية، من إعادة تصنيع آلات: الكمنجة، والمزمار البلدى المزدوج، والطنبورة «السمسمية»، وكذلك الهارب، والناى، و(13) نوعاً من آلة العود.
جرى استخدام أشجار الماهوجنى، وأوتار من أمعاء الحيوانات، وتكنولوجيا الليزر فى الصناعة الدقيقة لتلك الآلات باعتبارها نُسخاً طبق الأصل من الآلات الموسيقية الفرعونية. ثم كان الإبداع التالى وهو إحياء السلّم الموسيقى المصرى، كما جرى تصحيح ما تعتبره معاهد الموسيقى جزءاً من الموسيقى العربية.. بينما هو «السلّم الموسيقى الفرعونى» أو «المقامات الفرعونية».
لقد جرى بعد ذلك إحياء الشعر الفرعونى، لتصبح لدينا «الموسيقى الفرعونية» و«القصيدة الهيروغليفية».. وهنا جاء تأسيس فرقة «أحفاد الفراعنة»، التى تقدّم حفلات الغناء الفرعونى المصرية باللغة الهيروغليفية، بينما يقوم أحد أعضاء الفرقة بشرح النص قبل بدء الموسيقى فى الانطلاق.
بحسب تعبير الإعلام العالمى، فقد جرى إنطاق الرسوم الفرعونية والجداريات، لتصبح حفلات حيّة على مسارح العالم. نشر الدكتور خالد شوقى البسيونى بحثاً بعنوان «مناظر الحياة الموسيقية فى مصر القديمة»، ونشر الدكتور محمود أحمد حنفى كتاباً مهماً بعنوان «موسيقى قدماء المصريين».
بدأ الحاصلون على دبلوم الموسيقى الفرعونية من كلية التربية الموسيقية جامعة حلوان فى نشر أوراق وأبحاث عن ذلك المجال الجديد. واليوم يجرى التمييز بين الموسيقى الملكية الفرعونية، وبين موسيقى المعابد، والموسيقى العامة.
جاء فى كتاب «موسيقى قدماء المصريين» أن الفيلسوف اليونانى الشهير أفلاطون كان يقول: «إن الموسيقى المصرية هى أرقى موسيقى فى العالم، وإنها هى الموسيقى الملائمة لتكون لحنَ الجمهورية الفاضلة». وقد تحدّث أفلاطون عن «الأوبرا الفرعونية» التى تصور نظام الكون والبروج الاثنى عشر للسماء، وهى أوبرا «موسيقى النجوم»، التى كان يتم عرضها أمام النخبة الفرعونية فقط من رجال الدولة ورجال الدين.
كانت الحفلات الملكية الفرعونية شديدة الثراء والبهاء، وقد أقام الملك «أمنفيس الثالث» وزوجته الملكة «تاج» على ضفاف النيل ساحة وبحيرة للاحتفالات سمّاها «بحيرة المسرّات». وكانت الاحتفالات تضم أنشطة فنية فى ساحة الاحتفالات، واستعراضات مبهرة عبْر أسطول من القوارب، يقدم أعماله على سطح البحيرة.
إن «الموسيقى الفرعونية» إذْ تعود اليوم فهى تُذكِّر بتاريخ بديع من الفنون والآداب المصرية القديمة. وليس من قبيل المفاجأة أن يكون كثيرون حول العالم متعطشين لمثل تلك التجربة الفنية الجديدة.
وحسب تقارير صحفية نشرها الإعلام الغربى، فإن الإقبال الكبير يدعو للانتباه، فحين جرى إقامة حفل للموسيقى الفرعونية فى إسبانيا فى وقت تصادف مع مباراة لكرة القدم بين فريقى «ريال مدريد» و«برشلونة».. ظلت قاعة الحفل ممتلئة، ولم يكن هناك مقعد واحد شاغراً!
ما أودّ أن أطرحه -بناءً على ما تقدم- هو مناشدة السيد الرئيس إنشاء «الجامعة الفرعونية بالقاهرة»، وأقترحُ أن يكون مكانها فى منطقة المتحف الكبير والأهرامات.
تضمّ الجامعة المقترحة كلَّ ما يخص التاريخ والحضارة الفرعونية. ويمكن أن يتم نقل قسم الآثار المصرية من كلية الآثار جامعة القاهرة إليها، كما يتم إلغاء الأقسام الشبيهة فى الجامعات المصرية، فيما عدا كلية الآثار جامعة الأقصر، حيث تحمل جامعة الأقصر اسم واحدة من أيقونات الحضارة المصرية، وإحدى أشهر مدن العالم.
إن اسم «الجامعة الفرعونية» سوف يدفع أعدداً كبيرة من طلاب العالم للالتحاق بها، ومن اليسير أن تصبح جامعة عالمية فى سنوات. ستكون الجامعة مركزاً لتطوير «علم المصريّات»، كما أنها ستكون المؤسسة العلمية الأولى فى العالم المختصّة بالتاريخ الفرعونى.
إن الحضارة الفرعونية المصرية ليست هامشاً، بل هى أحد متون هذا الوطن العظيم، وبدلاً من أن تكون جهود الترميم مبعثرة هنا وهناك يمكن أن تكون كلية الترميم بالجامعة الفرعونية بالقاهرة هى الجهة الأكاديمية الأولى فى هذا الصدد.
وبدلاً من بعثرة الجهود بشأن الموسيقى الفرعونية يمكن أن تكون كلية الموسيقى بالجامعة الفرعونية المقصد الأول فى هذا المجال. ويمكن كذلك لكلية الآداب بالجامعة الفرعونية بالقاهرة أن تكون مركز دراسة الأدب الفرعونى بأشكال متعددة، كما يمكن أن تضم الجامعة قسماً للعمارة الفرعونية.
ليس المطلوب أن تضمّ الدفعة آلاف الطلاب، بل يجب أن تكون أقرب إلى نموذج «الجامعة البحثية»، وأن يجرى تحديد الأعداد فيها بالقدر الذى يناسب الحاجة وسوق العمل. سيكون رائعاً لو بدأنا من اليوم فى تأسيس «جمعية أصدقاء الجامعة الفرعونية بالقاهرة».. وبداية الدعوة لها.