الجورب المفقود
كنت أجلس كعادتي لأجمع الملابس المغسولة وأضعها في أماكنها المخصصة، أو في كيس واحد حتى يمرّ "صبي المكوجي" فيأخذها لبعض الوقت ويريحنا منها، وبالكاد كانت الغسالة تفرغ من الملابس ليعاد ملأها من جديد وفي أقل من نصف يوم، ومهمتي أن أفرز وأضع وأنشر وأجمع وأطرح وأضرب نفسي ستين "قلم"، لأنني عوّدت الجميع على الاعتماد عليّ وعلى الغسالة الأوتوماتيكية اعتمادًا كاملاً.
وبينما أنا في هذا الموال اليومي، وجدت زوجي يؤرجح أمام وجهي فردة جورب واحدة زرقاء اللون، وهو يقول بانفعال ونفاذ صبر واضحين: "فين الفردة التانية يا هانم.. دي مش أول مرة تحصل.. فاكرة الشراب البُني.. دلوقتي العيال بيعملوه حصّالة"، لملمت شتات فكري ونظرت إليه وكأنه قادم من عالم آخر، وأخذت فردة الشراب المزعومة وبحثت عن أختها التوأم بين الجوارب المتعددة الألوان المطروحة أمامي دون فائدة، وزوجي يقف أمامي عاقدًا ذراعيه أمام صدره بغيظ فقلت له متلعثمة وأنا أردّ له فردة الجورب: "بصّ في دولابك أكيد هتلاقي الفردة التانية"، فصاح بانفعال كعاصفة مجنونة: "مش في دولابي.. هتدخل لوحدها إزاي.. هيه تكيّة.. أنا دولابي منظّم جدًا يا هانم ولا يمكن تدخل فيه فردة لوحدها ولو على جثتي"، وألقى فردة الجورب أمامي بغضب، وهو يتحدّث كعادته عن دولابه المنظّم، ما يعكس بالطبع مدى نظام صاحبه ونظافته، وأمام هذا الغضب العارم كان عليّ أن أبدأ رحلة بحث محمومة عن الفردة الضائعة، فقلبت محتوى كل الدواليب أملاً في العثور عليها دون فائدة وشريط ذكرياتي يمرّ أمام عيني كالقطار، وكيف أن قميصه المفضل في سنوات زواجنا الأولى تحوّل "بقدرة قادر" في الغسالة للون الأحمر القاني، بعد أن كان ناصع البياض، ما جعلني أخفيه تمامًا عن الأنظار بحجة أنه طار يا ولداه من فوق حبل الغسيل، وبيجامته التي انكمشت فأصبحت قطع مطبخ ممتازة، وبنطلونه الذي أصبح مثل رقعة الشطرنج من أثر مبيض الغسيل، وتذكرت كيف تمّ اتهامي بالإهمال وأنا التي أضع الملابس في الغسالة في أحلك الظروف، عندما كنت في شهور حملي الأخيرة، وأعاني الأمرين وعندما كان ابني صغيرًا ولا يذيقني طعم النوم، وحينما كنت أخرج للعمل في ساعات الصبح الأولى وأعود "على ملا وشي" لأجهز الطعام وأغسل وألم وأنشر وارتب وأنظم واعجن عجين الفلاحة إن لزم الأمر، عندما كنت مريضة وعندما كان الجو باردًا وعندما كنت في حالة يُرثى لها، وما أن وصلت لهذه النقطة حتى أخذت فردة الجورب المزعومة وأسرعت لزوجي، الذي كان يجلس بكل كبرياء في غرفة المعيشة واضعًا ساق على ساق، ليقرأ الجريدة فوضعت أمامه فردة الجورب بحسم وسط دهشته، وقلت له: "أنا فعلاً ست مهملة ومش منظمة زيك.. إيه رأيك تشيل انت الليلة دي كلها وأنا أبقى مسؤولة من هنا ورايح عن دولابك بس.. أنظمه وارتبه وأخليه فٌلة، وإن اشتكيت مني بعد كدا يبقى ليك الكلام"، برقت عيناه ببريق غضب أخافني للحظة فابتلعت لساني والتقطت فردة الجورب المأسوف على شبابها وانطلقت مرة أخرى، لأكمل رحلة بحثي عن الجورب الضائع.