العدد الأخير من مجلة «تايم» الأمريكية جاء واضحاًَ وشارحاً أيضاً للخطاب الملتبس الذى ألقاه الرئيس الأمريكى «باراك أوباما» عن «العراق»، ليلة الخميس الماضى بتوقيت القاهرة، ففى الوقت الذى تعمد فيه «أوباما» ألا يقول شيئاً محدداً، جاء غلاف «تايم» صريحاً إلى حد الجنون، فقد تعمدت هذه المجلة أن تضع خريطة العراق على غلافها وقد نشبت النيران فى أطرافها وتوغلت إلى ما بعد الأطراف فى إشارة إلى أن العراق كله يحترق، ثم اختارت «تايم» عنواناً مدمراً من كلمتين فقط: «نهاية العراق». ومن يراجع خطاب «أوباما» على ضوء ما نشرته «تايم» يفهم جيداً «المصير المحتوم» الذى أعدته الولايات المتحدة الأمريكية لهذا البلد العظيم، والذى لن يخرج عن تقسيمه إلى ثلاث دويلات مستقلة، تكدس كل منها السلاح ومشاعر الثأر والانتقام وميليشيات التخريب ضد الدولتين الأخريين، وسوف تسهر أمريكا بذئابها وجواسيسها وميليشياتها السرية على دوران رحاية الخراب والقتل والتدمير لتطول كل شبر من أرض العراق القديم، باستثناء المناطق التى تضم آبار ومصافى النفط، وها هو أوباما يحرص على أن يكون واضحاً فقط فى هذه النقطة بقوله دون أدنى خجل: «نحرص على التنسيق مع دول المنطقة للحفاظ على استقرار أسواق النفط وتحقيق التوازن فى الأسعار من خلال تشجيعها على زيادة الإنتاج».
مرة أخرى، دول كبيرة فى المنطقة تضع كل مقدراتها تحت هيمنة أمريكا، وتؤمِّن لها إمدادات النفط حتى ينتهى رئيس الوزراء العراقى الشيعى، نورى المالكى، المصاب بجنون الاضطهاد، من ترسيم الخريطة الجديدة المحترقة والممزقة لبلد عظيم وعريق ظلت الصهيونية العالمية تخطط لتخريبه، ولم تتمكن من إنجاز أى مرحلة من مراحل هذا التخريب إلا بمساعدة مباشرة من دول الجوار، التى ظنت وما زالت تظن أن تقديم العراق لقمة سائغة للإمبريالية الأمريكية المتوحشة وإسرائيل ربما يصرف أنظارهما تماماً عن بقية دول المنطقة.
والآن تقف العراق على شفا منحدر رهيب، ساقتها إليه أمريكا وبريطانيا وإسرائيل، وأنفقت آلاف المليارات من فائض دول النفط المسلمة المجاورة للعراق لكى تصل بها إلى حافة المنحدر، وها هو نورى المالكى مرة أخرى يستنجد بمن دمروا بلده، ويطلب التدخل من الجهات ذاتها التى فعلت المستحيل لتمزيق العراق، وها هى ذات الدول الخليجية تنتظر المشورة من أمريكا، دون أن يتوقف أى طرف من الأطراف ليراجع نفسه ويعيد حساباته ويقرر الخروج بقراره من هذه الدائرة الشيطانية التى قضت على واحدة من أغنى دول العالم وأعرقها حضارة وثقافة، بهذه الحالة المفجعة من التشرد والتهجير القسرى والقتل الجماعى والحرق والتمثيل بالجثث، وهى دائرة ستتسع حتماً لتضرب كل الدول التى وقفت تتفرج، وكل الدول التى وضعت آبار نفطها وفوائض أموالها تحت تصرف الشيطان الأمريكى. هل من «بلد» فى المنطقة بإمكانه الآن أن يفعل شيئاً لإنقاذ العراق من «المصير المحتوم» الذى وضعه الشيطان الأمريكى؟ أتطلع فى خريطة الوطن العربى الممتدة من نفط الخليج إلى أقبية اللذة على المحيط، فلا أجد غير «مصر».. فهى الدولة الوحيدة التى بإمكانها أن ترفع وعيها باللحظة التاريخية من تحت أقدام أزماتها اليومية الطارئة، وأن تتخذ قراراً عاجلاً بوقف رحاية الدم فى العراق وسوريا تحديداً، وأن تقف بصلابة ضد تقسيم العراق، وأن يفكر صانع القرار المصرى فى مغزى هذين المشهدين: طائرة بول بريمر، ممثل الاحتلال الأمريكى، تهبط فى العراق عام 2003، وعلى متنها 11 عراقياً جاءوا من المنافى، كان بينهم إياد علاوى الشيعى، ومحسن عبدالحميد السنى، منسق الإخوان المسلمين فى العراق، وجلال طالبانى الكردى. وبعد 3 سنوات ونصف السنة استيقظ العالم كله صباح عيد الأضحى الموافق 30 ديسمبر 2006 على تنفيذ حكم الإعدام فى الرئيس العراقى «السنى» صدام حسين، وكان القاضى الذى أصدر الحكم هو رؤوف رشيد عبدالرحمن، الكردى، وكان رئيس الوزراء الذى صادق على الحكم وعلى تنفيذه فى هذا اليوم الرهيب هو نورى المالكى، الشيعى.
على صانع القرار المصرى أن يقرأ تاريخ أمريكا وإسرائيل فى العراق على ضوء هذين المشهدين الرهيبين ليعرف أنه أمام مهمة تاريخية قومية: أن يقف بصلابة ضد تقسيم العراق.. ليس فقط لأنه بلد شقيق وعظيم يستحق هذه الوقفة دون مقابل.. ولكن لأن رحاية الخراب لن تتوقف حتى تتهاوى الخريطة العربية كلها فى جحيم الخراب والتقسيم.