يمكن القول بأن شهر رمضان فى القرآن هو شهر نزول القرآن؛ لأن الله تعالى يقول: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» (البقرة: 185). كما أنه هو شهر الصوم الواجب على المسلمين؛ لأن الله عز وجل يقول: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» (البقرة: 185). لكننا فى هذه الأنابيش الفقهية نسعى إلى إظهار معلومات جديدة تأخذ بأيدى من يعرفها إلى طريق الولاية. أقصد الولاية مع الله أو الولاية على النفس ولا أقصد الولاية على الناس التى تفرز أوصياء الدين. يقول تعالى: «أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ» (يونس: 62-63). هؤلاء هم الأولياء عند الله وليس أولئك الأوصياء الذين يفرضون آراءهم الفقهية وثقافتهم على الناس أو يصدرونها على أنها دين الله بالكذب. قال تعالى: «وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ» (النحل: 116).
نعم إن شهر رمضان هو الذى نزل فيه القرآن، وهذا صحيح، إلا أن الأمانة تستوجب أن نقول: وكل الكتب السماوية نزلت أيضاً فى شهر رمضان. أليس القرآن هو كلام الله؟ أيضاً التوراة والإنجيل من عند الله. أخرج الإمام أحمد فى مسنده عن واثلة بن الأسقع أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «أنزلت صحف إبراهيم فى أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان».
وفى تفسير ابن كثير رواية أخرجها ابن مردويه عن جابر بن عبدالله زاد فيها: «إن الزبور أنزل لثنتى عشرة خلت من رمضان». وأخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس قال: «نزل القرآن فى رمضان فى ليلة القدر، وفى ليلة مباركة جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلاً فى الشهور».
وإذا كان شهر رمضان فى القرآن هو شهر الصوم الواجب على المسلمين؛ لقوله تعالى: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» (البقرة: 185)، وما أخرجه البخارى ومسلم عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «بنى الإسلام على خمس: الشهادة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان». إلا أن الأمانة تستوجب أن نقول إن الصوم فى رمضان ليس واجباً إلا على القادرين البالغين من الرجال والنساء إلا على المرأة أيام حيضها ونفاسها فعليها القضاء بعد رمضان. واستثناء الأطفال والمرضى من وجوب الصوم فيه إظهار لسماحة الدين وأنه لا يفرض واجبات إلا على المستطيعين القادرين بدون حرج. قال تعالى: «لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» (البقرة: 286). وقال تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (الحج: 78)، وأخرج البخارى عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه».
واستكمالاً للأمانة العلمية يجب أن نقول: إن صيام شهر رمضان على المسلمين ليس لتعذيبهم أو إلزامهم بصوم لم يكن مثله على البشر السابقين، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة: 183). ليس المسلمون وحدهم الذين أمروا بالصوم، بل إن كل دين نزل من السماء أوجب الصيام على أتباعه، مع اختلاف هيئة الصوم؛ لقوله تعالى: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً» (المائدة: 48).
وكما أمرنا الله أن نطيعه فى العبادات فقد أمرنا أيضاً ألا نتعرض لأهل التوراة من اليهود وأهل الإنجيل من المسيحيين فى التزامهم الدينى. بل بالعكس نشجعهم على طاعة الله بحسب شريعتهم مثل ما نتمنى منهم أن يشجعونا على طاعة الله بحسب شريعتنا. ونبين ذلك بالدليل فيما يلى:
(1) انظر ماذا يقول الله تعالى عن أهل التوراة: «إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ. وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (المائدة: 44-45). تأمل النص لمن؟ إنه لأهل التوراة من اليهود، والخطاب نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم.
(2) وانظر ماذا يقول الله عن أهل الإنجيل: «وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ. وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (المائدة: 46-47).
وبعد أن أمرنا الله أن نشجع اليهود والنصارى على طاعة الله حسب نصوص التوراة والإنجيل أمرنا بطاعته حسب نصوص القرآن، ونهانا عن الانحراف فى العبادة، وعدم التشكك عندما نرى صلاتنا غير صلاتهم، وصيامنا غير صيامهم؛ لأن لكل ملة شريعة خاصة بها، فقال سبحانه: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (المائدة: 48).
خلاصة الكلام أن كل أصحاب الديانات السماوية يلتزمون طاعة الله بحسب ما ورد فى الكتب المقدسة؛ لأن كلنا نتنافس فى فعل الخير وفى حب الله ولا نتقاتل ونتعارك ونتصارع، من منا يتولى وظيفة وكيل الله فى الأرض؟ لا. ليس لله وكيل أعمال. حتى الرسل قال لهم: «مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ» (المائدة: 99). لذلك يجب على كل الأوصياء والوكلاء الدينيين أن يمتنعوا. وأما من كان لديه علم وفقه وفهم فعليه أن ينصح الناس وأن يذكرهم بحسب وظيفة رجل العلم بالدين وليس رجل الدين.. والفرق كبير، ذلك أن رجل الدين يزعم معرفته بالحقيقة المطلقة وكأنه وكيل أعمال عن الله. وأما رجل العلم بالدين، فكلامه علم وفهم قابل للمناقشة والأخذ والرد. ومن أجل ذلك وجدنا القرآن الكريم يقطع يد كل الأوصياء الدينيين، أو أصحاب الكهنوت الذين يتدخلون فى شأن الله الخالص والحكم على الناس بالدين وليس بقواعد العدل والظلم، فقال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ » (البقرة: 62). وقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ» (الحج: 17).
وإلى لقاء جديد غداً بإذن الله مع أنبوشة فقهية أخرى.