لم يكن الانقسام بين الفرعين العباسى والعلوى هو الانقسام الوحيد الذى حدث فى رحلة «الشيعة»، حين أصر «المتشيعون» على توحيد الأئمة فى إطار نسل على بن أبى طالب من «فاطمة»: «الحسن والحسين»، ثم نسل على بن الحسين، ولم يعترفوا بأية زعامات تمت بالقرابة إلى بيت النبوة. وجنح الأئمة الذين أصبحوا يوصفون بـ«الشرعيين» إلى المعارضة القانونية، وتراجعوا عن فكرة منابذة الخلافة العباسية بالقوة، لكن انقساماً أخطر وقع فى تاريخ هذا الخط الأصيل من خطوط التشيع، عندما وصلت الإمامة إلى «جعفر الصادق»، وهو الإمام السادس الذى يسبقه: على بن أبى طالب، ثم الحسن بن على، ثم الحسين بن على، ثم على زين العابدين، ثم محمد الباقر. كان لجعفر الصادق ابنان: كبيرهما «إسماعيل»، والأصغر «موسى الكاظم»، ويبدو أن حق البكورية كان يلعب دوراً فى اختيار الإمام الخليفة، فى استدعاء واضح لنظرية «البكورية» التوراتية التى كانت تخول للابن الأكبر وراثة الرسالة عن أبيه. ولأسباب غير واضحة حرم «جعفر» ابنه الأكبر «إسماعيل» من خلافته فى منصب الإمامة، ومنحه لأخيه الأصغر «موسى الكاظم»، واعترف الكثير من الشيعة بإمامة «الكاظم» واستمر نسله حتى الإمام الثانى عشر، فتلاه على بن موسى الرضا، ثم محمد بن على الجواد، ثم على بن محمد الهادى، ثم الحسن بن على العسكرى، ثم محمد بن الحسن (الغائب). وهكذا تشكلت فرقة الشيعة الاثنا عشرية التى تحددت أئمتها فى الأسماء السابقة، بداية من على بن أبى طالب وانتهاء بمحمد بن الحسن العسكرى. وسيطر المذهب الاثنا عشرى (الجعفرى) على الشيعة الفرس، وهو المذهب الرسمى اليوم لإيران، بالإضافة إلى مناطق من المشرق العربى.
تحلق قطاع لا بأس به من الشيعة حول موسى الكاظم الابن الأصغر لجعفر الصادق، فى حين اتجه آخرون إلى التحلق حول إسماعيل بن جعفر ونسله، وهذه الجماعة عرفت بـ«الإسماعيلية»، وإذا كان موسى الكاظم سار على منوال سابقيه من الأئمة فى المعارضة القانونية للخلافة العباسية، فقد اختلف الأمر لدى «الإسماعيلية»، إذ ظل أتباع هذه الفرقة يعملون فى الخفاء، وأجادوا العمل السرى وتمكنوا من تكوين حزب فاق غيره من أحزاب الشيعة. وكانوا يجتذبون -كما يقول المحللون- المبتدئ بالإثارة المستمدة من العمل السرى وسحر المعرفة السرية، والاعتماد على التفسير الرمزى للقرآن الكريم والمسمى «تأويل الباطن» ومنه اشتق تعبير «الباطنية» الذى عرفت به الفرقة «الإسماعيلية» أحياناً. ولو أنك تأملت شفرة عمل الكثير من الجماعات التى عرفتها الدول الإسلامية المعاصرة، فسوف تجد أنها تعتمد على الكثير من القواعد التى نحتتها التجربة الإسماعيلية فى العمل السرى، واستخدام الدعاية، والأساليب المختلفة لتأليف القلوب، بالإضافة إلى التأويل الخاص للنص القرآنى، وذلك هو الأخطر. لم تدُم طويلاً حالة الاستقرار التى عاشتها الدولة العباسية، وهى آمنة من تحركات وثورات العلويين ضدها، حين تلقت ضربة موجعة -وقد لا نبالغ إذا قلنا مزلزلة- من جانب شيعة الفرس، بعد أن تمكنت أسرة «بنى بويه» من إنزال أقصى الإذلال بالعالم السنى بالاستيلاء على بغداد ووضع الخليفة العباسى تحت سيطرتهم. وبنو بويه إخوة ثلاثة هم: عماد الدولة أبوالحسن على، وركن الدولة أبوعلى الحسن، ومعز الدولة أبوالحسين أحمد، أولاد أبى شجاع بويه بن قباخسروبن. وكان معز الدولة أحمد بن الحسن بن بويه قد استطاع جمع جحافل عظيمة من الجيوش وقصد بغداد، فلما اقترب منها بعث إليه الخليفة المستكفى بالله الهدايا وقال للرسول أخبروه أنى مسرور به وأنى إنما اختفيت من شر الأتراك الذين انصرفوا إلى الموصل، وبعث إليه بالخلع والتحف، ودخل معز الدولة بغداد، ودخل عليه «المستكفى» ولقبه بـ«معز الدولة» ولقب أخاه أبا الحسن بـ«عماد الدولة» وأخاه أبا على الحسن بـ«ركن الدولة» وكتب ألقابهم على الدراهم والدنانير، كل هذه الإجراءات التى اتخذها الخليفة العباسى لم ترضِ «بنى بويه»، وكان أن حضر «معز الدولة» إلى الحضرة فجلس على سرير بين يدى الخليفة وجاء رجلان من الديلم (تشكل جيش بنى بويه فى أغلبه من الديلم) فمدا أيديهما إلى الخليفة العباسى فأنزلاه عن كرسيه وسحباه فتحربت عمامته فى حلقه، واضطربت دار الخلافة وتفاقم الحال وسيق الخليفة ماشياً إلى دار معز الدولة «البويهى» فاعتقل بها وأحضر أبوالقاسم الفضل بن المقتدر فبويع بالخلافة وسملت عينا «المستكفى» وأودع السجن فلا يزال به مسجوناً حتى كانت وفاته فى سنة ثمانٍ وثلاثين وثلثمائة، كما يحكى «ابن كثير». ومن اللافت أن «البويهيين» لم يكونوا من الشيعة الاثنى عشرية أو الإسماعيلية، بل انتموا إلى فرقة شيعية ثالثة بدأت فى الظهور، وهى فرقة الشيعة «الزيدية»!