قصة القضاء على التشيع فى مصر وإزالة الخلافة الفاطمية قصة يجدر بنا التوقف أمامها. وكما تعلم فإن صلاح الدين الأيوبى هو الذى أتم هذه المهمة، وكان الخليفة «العاضد» -آخر الخلفاء الفاطميين- قد استوزر «صلاح الدين» وهو يتأمل فيه -فيما يبدو- أن يلعب نفس الدور الذى لعبه «بدر الجمالى» فى تاريخ «المستنصر»، والواضح أن «العاضد» قرأ النصف الأول من تاريخ «الجمالى» مع «المستنصر»، حين لعب دوراً فى تخليص مصر من آثار المجاعة (الشدة المستنصرية) وأعاد الأمن إلى البلاد، ولم يقرأ النصف الثانى من كتاب تاريخه، حين أصبح الحاكم الحقيقى للبلاد هو وابنه «الأفضل».
خلع «العاضد» على «صلاح الدين» لقب «الناصر»، وأخذ يقربه إليه ويعتمد عليه. ومن ناحيته، لم يتوانَ «صلاح الدين» فى توطئة الأمر لنفسه فأخذ -كما يحكى «ابن الأثير»- يستميل قلوب الناس، وبذل الأموال، فمالوا إليه وأحبوه وضعف أمر «العاضد»، ثم أرسل «صلاح الدين» يطلب من «نورالدين» أن يرسل إليه إخوته وأهله، فأرسلهم إليه، وشرع يعتمد عليهم، وأخذ إقطاعات الأمراء المصريين فأعطاها أهله والأمراء الذين معه، وزادهم، فازدادوا له حباً وطاعة، أخذ «الناصر صلاح الدين» يستقوى بالمال من ناحية وبعائلته من ناحية أخرى، وبدأ نفوذه فى التزايد. فى هذه اللحظة بدأ عدد من المحيطين بـ«العاضد» داخل قصر الخلافة، ومن بينهم «مؤتمن الخلافة»، فى إدراك الخطر المقبل، فحاكوا مؤامرة للتخلص من «صلاح الدين»، يقول «ابن الأثير»: «اتفق مؤتمن الخلافة -وكان خصياً أسود- هو وجماعة من المصريين على مكاتبة الفرنج واستدعائهم إلى البلاد، والتقوِّى بهم على صلاح الدين ومن معه، وسيَّروا الكتب مع إنسان يثقون به، وأقاموا ينتظرون جوابه، وسار ذلك القاصد إلى البئر البيضاء، فلقيه إنسان تركمانى، فرأى معه نعلين جديدين، فأخذهما منه، وقال فى نفسه: لو كانا مما يلبسه هذا الرجل لكانا خَلِقين، فإنه رث الهيئة، وارتاب به وبهما، فأتى بهما صلاح الدين ففتقهما، فرأى الكتاب فيهما، فقرأه وسكت عليه». كان «مؤتمن الخلافة» متآمراً وساذجاً حين خطط لإخراج «صلاح الدين» لملاقاة الفرنجة ليقبض هو ومن معه على باقى أنصاره فى القاهرة، ثم يحصرونه مع الفرنج من الخلف ويقضون عليه، لكنه أهمل «حبك» المؤامرة ولم يراعِ بعض الأمور الشكلية البسيطة فكانت سبباً فى قتله.
لم يمر أمر مقتل «مؤتمن الخلافة» بسهولة بل خلَّف بحاراً من الدم، فقد قرر «صلاح الدين» عزل جميع الخدم الذين يتولون أمر الخلافة، واستعمل على الجميع «بهاءالدين قراقوش»، وهو خصى أبيض، وكان لا يجرى فى القصر صغير ولا كبير إلا بأمره وحكمه، فغضب السودان الذين بمصر لقتل «مؤتمن الخلافة» حمية، فحشدوا وأجمعوا، فزادت عدتهم على خمسين ألفاً، وقصدوا حرب الأجناد الصلاحية، فاجتمع العسكر أيضاً وقاتلوهم بين القصرين، وكثر القتل فى الفريقين، فأرسل «صلاح الدين» إلى محلتهم المعروفة بالمنصورة، فأحرقها على أموالهم وأولادهم وحرمهم، فلما أتاهم الخبر بذلك ولوا منهزمين، فركبهم السيف، وأخذت عليهم أفواه السكك فطلبوا الأمان بعد أن كثر فيهم القتل، فأُجيبوا إلى ذلك، فأُخرجوا من مصر إلى الجيزة، فعبر إليهم وزير الدولة «توران شاه» أخو «صلاح الدين» الأكبر فى طائفة من العسكر، فأبادهم بالسيف، ولم يبق منهم إلا القليل الشريد، كما يحكى «ابن الأثير».
بعد ملحمة الدم التى قام بها «صلاح الدين» فى «السودان» المحيطين بـ«العاضد»، قرر تصفية الدولة الفاطمية بشكل كامل، فتخلص من قادة الجيش المصريين واستبدل بهم رجالاً من أنصاره، كما سيطر على خزائن الدولة من خلال إسناد الإشراف عليها إلى والده، ثم اتخذ قراراً بحذف جملة «حى على خير العمل» من الأذان، وأمر أن يُذكر الخلفاء الراشدون الأربعة فى خطب الجمعة، وأنشأ مدارس لتعليم الفقه على المذهبين الشافعى والمالكى، وعزل جميع القضاة الإسماعيليين. ثم جاءت الخطوة الحاسمة لإنهاء تجربة الخلافة الفاطمية وعصر التشيع فى مصر بإسقاط خطبة الفاطميين والدعوة للخليفة العباسى، وكان ذلك عام 567هـ، يقول «ابن الأثير»: «وكان قد دخل إلى مصر إنسان أعجمى يعرف بالأمير العالم، فلما رأى ما هم فيه من الإحجام، وأن أحداً لا يتجاسر أن يخطب للعباسيين، قال: أنا أبتدئ بالخطبة لهم، فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب ودعا للمستضىء بأمر الله، فلم ينكر أحد ذلك، فلما كانت الجمعة الثانية أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة أن يقطعوا خطبة العاضد ويخطبوا للمستضىء، ففعلوا ذلك فلم ينتطح فيها عنزان، وكتب بذلك إلى سائر بلاد مصر، ففعل. وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أحد من أهله وأصحابه بقطع الخطبة، وقالوا: إن عوفى فهو يعلم، وإن توفى فلا ينبغى أن نفجعه بمثل هذه الحادثة قبل موته، فتوفى يوم عاشوراء ولم يعلم بقطع الخطبة».