من صنع كل هذا، ومن أين بدأ، وإلامَ سينتهى؟.
ما كل هذه الجثث والأشلاء التى تُلقَى فى وجوهنا كأننا نُرجَم لذنبٍ لم نرتكبه؟.. ما كل هذه الدماء التى «تطرطش» على ثيابنا.. إن كان قد بقى على أجسامنا ثياب؟.. ما كل هذا الموت الذى يطل علينا -حيناً- من العراق وسوريا وليبيا وفلسطين... كأن دموعنا وحرقة قلوبنا على شهدائنا يا أخى لم تعد كافية!. وحيناً آخر ينفجر فى وجوهنا من عفن العشوائيات وبطون الجبال وعتمة القرى والنجوع... كأن الله خبأ غضبه العظيم فى صورتنا الأولى!.
هل كُتِبَ على هذا البلد -الذى نص عليه القرآن- ألا ينهض أو تقوم له قائمة، وأن يقضى ما بقى له من العمر أسيراً، ذليلاً، لـ«أهميته الاستراتيجية»، و«ثقله الحضارى»، وتاريخه الذى يساوى -طولاً وعمقاً- عشرة أضعاف تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية؟. هل كُتِبَ على هذا الشعب المسالم ألا يهنأ بهدنة فى حربه الطويلة والمريرة ضد الفقر والظلم والجهل والتخلف، وأن يجوع لئلا يأكل الآخرون بشرفهم؟.
من صنع كل هذا فى أمةٍ آمنت قبل غيرها بأن «لا إله إلا الله»؟. وكيف أصبحت «لا إله إلا الله» راية قتل وإرهاب وتكفير بعد أن كانت كلمة سر المسلمين فى عبورهم إلى الجنة؟. كيف تسللت هذه الأيقونة المقدسة من القلوب المتخمة بنور الإيمان إلى سواد أعلام «داعش والقاعدة»؟. أى إسلامٍ هذا، بل كم «إسلاماً»، وأيها مصداقُ لقول الحق فى كتابه العزيز: «إن الدين عند الله الإسلام»؟.
لا جيلى، ولا مائة جيلٍ قبلى، عاش أو سمع أو قرأ فصلاً واحداً كاملاً من تاريخ الإسلام عن وسطيته واعتداله!. منذ «مؤامرة السقيفة»، مروراً بكل المجازر والمؤامرات التى واكبت تأسيس «دولة محمد»، وانتهاءً بإعادة إنتاج هذا التاريخ الدامى من خلال ما يسمى «دولة أبوبكر البغدادى».. يتعثر الذاهبون إلى الله فى أشلاء المسلمين وجماجمهم، فأيهما نصدق: الإسلام فى وسطيته واعتداله.. أم فى «داعشه» و«قاعدته»؟. أيهما نصدق وقد ظل رأس «الحسين» يتدحرج من «كربلاء» كقطعة من جهنم، وأبى أن يستقر إلا فى كنف المصريين؟.
كثيراً ما أسأل نفسى -وأنا أسمع القرآن وأشعر بضآلتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس: هل يستحق المسلمون «ديناً إنسانياً» كهذا؟. هل خلق الله مسلماً -بعد «محمد»- يرقى إلى مستوى هذا النص؟. أين يكمن العيب إذن: فى «مثالية النص» أم فى «غلظة الواقع»؟. وما ذنب مصر التى اخترعت «إسلاماً وسطاً» بين هذا وذاك؟. ما ذنبها وهى التى احتضنت «الأزهر» -منارة الوسطية- وكانت ولا تزال ملاذاً ومنبراً لكل رموز الاستنارة؟. لماذا أصبحت هدفاً لهؤلاء السفاحين والمرتزقة والمتاجرين بـ«لا إله إلا الله».. كأن «إسقاط مصر» يا أخى هو الفريضة الغائبة!؟.
مصر -التى بدأت فى بناء دولتها بعد مؤامرة «الربيع العربى» و«هزيمة 25 يناير» الفادحة، المخزية- تقف الآن وحيدةً فى قلب مشهد مخيف، وكل الذين يحيطون بها من الشرق والغرب والجنوب، وفى أعالى البحار وأسافل الأرض، ومن داخلها وبين أيديها، يحاولون جرها إلى دائرة جهنمية... كأنهم يا أخى يستكثرون على هذا البلد أن يقف على قدميه!.
مصر -التى بدأت تلملم جراحها، وتحاول أن تتعافى من كبواتها وفواجعها وخيبات أملها- تقف الآن فى تقاطع مصالح وصراعات وتحالفات ومؤامرات قذرة: لا فرق فى ذلك بين دولة عظمى مثل الولايات المتحدة، وعدو تقليدى مثل إسرائيل، ودولة تحلم باستعادة الخلافة مثل تركيا، فضلاً عن هذا الشىء البغيض التافه الذى يسمى «قطر». إنما قبل ذلك وبعده بطبيعة الحال.. عصابة الإخوان والآكلون على مائدة «تنظيمها الدولى» من حركات وائتلافات ثورية مخربة، ودعاة مصالحة جبناء، ونخبة سياسية تأكل بثدييها ولا تجوع.
الأرض من حولنا وعلى اتساعها تشتعل باسم الإسلام: الإسلام الذى لم يجد حضناً آمناً ودافئاً طوال أربعة عشر قرناً إلا فى مصر: مصر التى تقف الآن كامرأة شامخة، حرة، عفية، سليلة حسب ونسب، رغم أن الجميع يتحرشون بها وينهشون لحمها ويقتلون أبناءها صياماً وقياماً وقعوداً. حتى كلاب «حماس» -وهم مع الأسف آخر من بقى من فلسطين- أشعلوا حربهم التى يعرفون جيداً أنها خاسرة قبل أن تبدأ، وأنها لن تحرر سنتيمتراً واحداً من فلسطين.. بل ستحرر غزة من سكانها. لكنها بالنسبة لهم ستكون عصفورين بحجر واحد، أولهما: «توريط مصر» -جيشاً وشعباً وحكومة- اعتماداً على حقيقة أن مصر كانت وستبقى «ضعيفة»، متسامحة، إذا كان الأمر يتعلق بـ«فلسطين». وثانيهما: غسل سمعة حماس واستعادة ثقة المصريين بها بعد أن انحازت إلى عصابة الإخوان ولعبت دوراً فاعلاً وقذراً فى حربهم ضد الدولة المصرية، بكل ما ترتب على هذه الحرب من أعمال تخريب واعتداء على منشآت وجرائم قتل ضباط وجنود الجيش والشرطة.
لكن الأنكى والأغرب أن العالم من حولنا يريد لـ«مصر» أن تكون دائماً «على حافة» كل شىء: لا تنهض ولا تسقط.. لا تشبع فتتبطر ولا تجوع فيصيبها سعار.. لا تحارب فتصبح خطراً على غيرها ولا تعيش فى سلام فتبدع.. لا تثور فتهيج مناطق نفوذ أصحاب المصالح ولا تموت بغيظها فتفقد الأرض مركزها.. لا تتدخل فى شئون جيرانها ولا تتخلى عن مسئولياتها تجاههم.. لا تنهزم فى حربها ضد الإرهاب ولا يدير أمرها رئيس بـ«خلفية عسكرية»... كأننا يا أخى لم نرث من الفراعنة إلا لعنتهم!.