من حق أحزاب مصر المدنية، ومن واجبها، أن تسعى لبناء تحالفات سياسية أو انتخابية تساعدها على خوض الانتخابات البرلمانية المقبلة انتصاراً للدولة المدنية القانونية، فى مواجهة أخطار التطرف والإرهاب التى لا تزال تهدد أمن مصر الوطنى، وتحارب الأمة بأكملها، الشعب والجيش والأمن وكل مؤسسات الدولة المصرية، من أجل أن تستعيد سيطرتها على مصير البلاد، خاصة أن الأحزاب المدنية المصرية على كثرتها لا يزال معظمها يعانى من ضعف بنيته الحزبية، وهشاشة جذوره فى عمق المجتمع لدواعٍ كثيرة، يتعلق معظمها بأنظمة الحكم السابقة التى سدت الطريق أمام تطور الحركة الحزبية للإبقاء على احتكار الحكم ومنع تداول السلطة، ويتعلق بعضها الآخر بجمود الحركة الحزبية ذاتها، وعجزها عن ملاحقة المتغيرات الجديدة التى طرأت على طبيعة المجتمع، وافتقارها إلى الديمقراطية الداخلية، فضلاً عن هشاشة بنيتها الأساسية، إلى حد أن معظم الحراك السياسى فى المجتمع المصرى على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة فارق الحركة الحزبية، مؤثراً أن يكون نشاطه خارج سياق الأحزاب التى عجزت عن جذب قوى الشباب وحسن تمثيل المرأة المصرية، لتبقى مجرد كتل طافية فوق سطح الحياة السياسية، عاجزة عن أن تقود التغيير المنشود أو تلبى مطالب الثورة الجديدة!
وربما يجوز أن نضيف لأسباب ضعف الحركة الحزبية سبباً تاريخياً آخر، يتمثل فى افتقاد المصريين الثقة فى معظم الأحزاب السياسية باستثناء حزب الوفد القديم، لكثرة الأدوار السلبية التى لعبتها أحزاب الأقلية فى تحالفها مع القصر والاستعمار حفاظاً على مصالحها.. ولأن معظم الأحزاب الجديدة التى نشأت فى ظل حكمى الرئيسين السادات ومبارك، كانت بالفعل أحزاباً يدوية الصنع عائلية التشكيل، أسهمت السلطة فى نشأتها بهدف تفتيت قوى المعارضة حفاظاً على احتكار الحزب الوطنى للسلطة.. وحتى بعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو، لم تستطِع جهود جبهة الإنقاذ خلال الفترة الانتقالية أن تسفر عن تشكيل تحالف حزبى قوى، يجمع القوى المدنية على صعيد واحد ويعزز تماسكها دفاعاً عن مستقبل الدولة المدنية وحقها فى الديمقراطية، رغم الرفض الشعبى الواسع لجماعة الإخوان، الأمر الذى أدى إلى ذبول جبهة الإنقاذ سريعاً بعد سقوط حكم الجماعة، خاصة أن الجبهة لم تتبنّ برنامجاً واضحاً لمواجهة فكر الجماعة ومقاومة سيطرتها على بعض الفئات الاجتماعية، ولم تثبت نجاحها السياسى فى تقليص سطوة الجماعة فى بعض الأحياء والمدن، الأمر الذى حصر نطاق المواجهة فى الجهد الأمنى وحده!
ولضعف الحركة الحزبية، وعجزها عن استقطاب قوى المجتمع الجديدة، وضمور دورها على أرض الواقع، جاء تخصيص نسبة 77% من مقاعد البرلمان للمقاعد الفردية متوافقاً مع توجهات الناخب المصرى، غير المنتمى فى الأغلب للحياة الحزبية الذى يشكل غالبية المصريين، بينما أبدت معظم الأحزاب المدنية غضبها واستياءها من الوضع الجديد الذى حصرها فى 23% من مقاعد البرلمان (120 مقعداً)، يتم اختيارهم بنظام القائمة المطلقة الذى يمكّن القائمة التى تحصل على أعلى الأصوات من الفوز بجميع المقاعد، بما زاد من تعقيد المشكلة وضاعف من صعوبات تشكيل تحالفات قوية من أحزاب معظمها بلا تاريخ، يختلف وزنها الشعبى وثقلها السياسى، لكنها تصر على المساواة فى توزيع المقاعد!
ولأسباب عديدة، من بينها ضيق فسحة الزمن وقد أصبحت الانتخابات البرلمانية على الأبواب، وتشابك برامج الأحزاب المدنية وتنوعها دون توافق يجمعها على عدد من الخطوط الأساسية التى تميزها كأحزاب مدنية، فإن معظم الجهود الراهنة تصب فى إطار محاولة إقامة تحالف انتخابى، هدفه الأول كسب المقاعد المائة والعشرين لصالح قوى حزبية بعينها، يتحتم بالضرورة أن يكون بينها قدر من الوفاق السياسى، يلزمها رفض تنظيمات العنف والإرهاب، ورفض تشكيل الأحزاب السياسية على أسس دينية، كما يلزمها الحفاظ على أسس الدولة وقوانينها، واحترام حقوق الإنسان، والقبول بحقوق المواطنة للجميع دون تمييز فى الجنس أو اللون أو الدين، والالتزام بحرية الرأى والتعبير، والامتناع عن التحالف أو التعاون مع كل القوى التى تخاصم هذه الأسس والمبادئ.
وأظن أن هذه المعايير السياسية تكفى أساساً لتشكيل تحالف مدنى واسع يتجاوز القسمة بين الموالاة والمعارضة، يمكن أن يضم الوفد والتجمع والأحرار الديمقراطيين وكل القوى المدنية، ويمكن أن يضم أيضاً العديد من قوى التيار الديمقراطى.. وفى إطار هذه المهمة يحسن بهذا التحالف أن ينأى بنفسه عن أن يكون مجرد ظهير سياسى للحكم، بحيث يملك المرونة الكافية التى تمكنه من اتخاذ الموقف الصحيح دون التحزب المسبق للموالاة أو المعارضة مع الحفاظ على ثوابته الأصلية، وأولها رفض التعاون أو التحالف مع قوى العنف والتطرف.. وأظن أن تحالفاً من هذا النوع يمكن أن يبنى جسوراً جديدة من الثقة مع قوى الشباب، ويمكن أن يشكل دعماً هائلاً للمرأة فى الانتخابات البرلمانية المقبلة، ويمكن أن يكون عنصراً جاذباً لأقباط مصر.
أعرف أن توزيع المقاعد المائة والعشرين على هذه القوى سوف يكون مشكلة كبيرة لعلها أكبر مشكلات التحالف، فى ظل غياب معايير علمية وموضوعية تقيس قوة الأحزاب المدنية على الساحة السياسية، وربما لا يكون هناك مناص من تشكيل لجنة حكماء يتوافق كل الأطراف على وطنيتهم وحيدتهم والتزامهم بالدولة المدنية القانونية، تقوم بمهمة الحكم العدل فى توزيع المقاعد على أعضاء التحالف وفقاً لجدارة وشعبية قوائمها الانتخابية.
ولأن القوى التقليدية (العائلات والعشائر والروابط العصبية) لا تزال تشكل جزءاً مهماً من خريطة القوى السياسية فى الريف خاصة فى صعيد مصر، فربما يحسن التعامل معها باعتبارها قوى اجتماعية تفرض عليها مصالحها أن تكون إلى جوار السلطة فى كل العهود والأزمنة! ويصبح من الحماقة معاداة هذه القوى وحرمانها من الترشح بدعوى أنهم يشكلون العمود الفقرى للفلول أو أنهم الطابور الخامس للحزب الوطنى، لأن معاداة هذه القوى ما لم تكن من الرموز الفاعلة فى الحزب الوطنى، سوف تثير البغضاء والعنف فى الريف المصرى وتؤدى إلى المزيد من الانقسام والتشرذم.
وكذلك الأمر مع التيار السلفى الذى يصعب تحديد حجمه بدقة، وتقول معظم المؤشرات إن أصوات بعضهم العالية تخفى الضعف المتزايد لقوة تأثيرهم على جماعة دينية واسعة، لعلها أوسع الجماعات الدينية وأكثرها انتشاراً، تتعدد تياراتها ما بين أغلبية كبيرة تعتقد أن العمل السياسى يفسد الدعوة الدينية، وأقلية يتحكم فيها شخوص محدودون كانوا يوماً ما من نجوم مصر الزاهرة! غالباً ما يتحركون بأوامر من الخارج، وتيار آخر براجماتى عملى لم تتضح بعد معالم حجمه، يمثله حزب النور الذى اختلف مبكراً مع جماعة الإخوان، وكشف سعارها فى السيطرة على مفاصل الدولة عندما أعلن عن قوائم الذين عينتهم الجماعة فى كثير من المواقع الحاكمة، يتصور أنه يمكن أن يملأ فراغ الجماعة ويرث مقاعدها وأصواتهم الانتخابية، وإن كانت الحقائق على أرض الواقع تقول إن السلفيين عموماً سوف يتأثرون بسقوط جماعة الإخوان لأن الجماعة أساءت إلى كل صور الإسلام السياسى، وسوف يخسرون الكثير من قوتهم التصويتية فى الانتخابات البرلمانية المقبلة، خاصة مع الفتاوى الغريبة التى تصدر من شيخهم «برهامى» تثير انزعاج الجميع واستفزازهم، وربما يكون من الحكمة عدم معاداة هذا التيار أو موالاته، والاستمرار فى الحوار معه إلى أن يوفق أوضاعه، لأنه بصورته الراهنة يمثل حزباً دينياً يناقض وجوده أحكام الدستور.