لا ينقطع أبداً حبل الأمل فى قدرة البشر على تحدى أعتى الصعاب، وها هو رجل عادى، يعيش ويعمل بعيداً جداً عن الأضواء والبريق، يتحول إلى منقذ حقيقى لملايين المواطنين الفقراء الذين أذلتهم أمراض الكبد المنتشرة فى كل أرجاء مصر، وخصوصاً فى منطقة الدلتا.
إنه الدكتور جمال شيحة، أستاذ أمراض الكبد بجامعة المنصورة، وابن محافظة الدقهلية الذى ولد وتعلم وعاش فى إحدى قراها الموبوءة بهذا المرض اللعين، ورأى بعينيه كمواطن، وعايش بكل جوارحه كطبيب، عذابات ملايين الأسر فى منطقة الدلتا وهى تتوسل العلاج لأحد أبنائها فلا تجده فى معظم الأحيان، وإن وجدته فى أحيان أخرى جاء مبتسراً، لا يفعل أكثر من إطالة عمر المريض، وإطالة عذابه وعذاب أسرته فى آن واحد.
فى عام 1997 قرر جمال شيحة أن يدخل المعركة ضد مذلة الفيروسات الكبدية، دون أى اعتماد على الدولة، بعد أن أدرك جيداً آنذاك أن الدولة بكل أجهزتها، أضاعت عشرات الفرص للتعامل مع هذه الكارثة بطريقة تتناسب مع خطورتها على الأمن القومى المصرى، فسارع إلى إنشاء جمعية أهلية لرعاية مرضى الكبد فى الدقهلية، وحرص على أن تضم لائحة إشهارها نصاً صريحاً بحق الجمعية فى جمع المال والتبرعات العينية «أدوية وأجهزة» لعلاج المرضى فى بيوتهم، وخلال العشر سنوات الأولى من إشهار الجمعية، تمكن فريق عمل ضخم يعمل تحت إشراف جمال شيحة من الوصول لعشرات الآلاف من المرضى المعدمين فى القرى والعزب والكفور، وفى شهر يوليو من عام 2011 كانت مصر من أقصاها إلى أدناها غارقة فى أوحال السياسة، فلم ينتبه أحد الانتباه اللائق لحفل بسيط أقامه جمال شيحة فى قلب غيطان الدقهلية، ولم يحضره غير اثنين من قيادات القوات المسلحة المصرية، لافتتاح صرح طبى عملاق هو مستشفى ومعهد بحوث أمراض الكبد -فى شربين بالدقهلية- وخلال شهور معدودة أصبح هذا المركز منارة علمية شاهقة، وموئلاً للرحمة والرعاية الطبية المذهلة بكل المقاييس لحشود غفيرة من مرضى الكبد وذويهم، بعد عقود طويلة من عذاب مهين تجرعه الملايين فى صمت وحسرة.
على مساحة 4 أفدنة -اشتراها عدد من أثرياء الدقهلية وتبرعوا بها لجمعية الكبد- وفى قلب الغيطان التى كانت من أهم مصادر البلهارسيا والفيروسات التى نهشت أكباد فلاحى الدلتا، يخطف أبصار المسافرين على طريق المنصورة - دمياط، مبنى شاهق الجمال والنظافة، وعندما يعود المسافر إلى بلده، ويصادف عدداً من المواطنين المرضى الذين زاروه لتلقى العلاج يسمع منهم ما يدعو إلى الفرح.. وما يدعو إلى ولادة الآمال من جديد فى قدرة هذا البلد على فعل المستحيل.
قبل أسبوع قضيت عدة أيام فى قريتى، وللمرة الأولى منذ سنوات طويلة، أجد أعداداً كبيرة من المرضى وذويهم يتحدثون باحترام بالغ وامتنان حقيقى لكل العاملين فى مستشفى ومعهد بحوث الكبد بشربين، إذ لأول مرة فى حياتهم كمرضى يطأون مكاناً علاجياً يستقبلهم بحفاوة ويحنو عليهم ويقدم العلاج الشامل -مهما بلغت تكلفته- للفقراء والمعدمين مجاناً دون أن يشعر أى منهم بأى إهانة أو مذلة.. وللمرة الأولى أيضاً ألمس وأشاهد تقدماً مدهشاً فى صحة المرضى الذين تلقوا العلاج فى هذا الصرح الطبى والبحثى، بعد عقود من مشاهدة المرضى وهم يتجرعون الإهانات فى مستشفيات الدولة ومستشفيات القطاع الخاص، وينزفون كرامتهم مع دمائهم تحت أقدام أطباء يملكون من عتاد الجلافة وانعدام الرحمة والأمانة أضعاف ما يملكونه من القدرة على التشخيص أو العلاج. لهذا فقط، ودون اعتماد على الإعلام أو الدعاية، ترامت شهرة مستشفى ومعهد الكبد بشربين حتى تحول إلى مقصد أساسى لعشرات الآلاف من المرضى من كل محافظات مصر، ولمئات المرضى من الدول العربية أيضاً، وهو إنجاز يعيد إلى الأذهان التجربة الرائدة التى بدأها أيضاً فى الدقهلية العالم المصرى المرموق، الدكتور محمد غنيم، عندما أصر على إقامة أكبر مركز لعلاج وجراحات الكلى والمسالك فى قلب الدلتا -بؤرة أمراض الكلى آنذاك- وها هى الدقهلية تتقدم الصفوف الآن -بفضل جمال شيحة وفريقه الرائع- لتصبح أمل مصر فى معركتها القومية ضد هذا الوباء الكارثى.. فتحية احترام وإجلال لهذا الطبيب والعالم والإنسان، الدكتور جمال شيحة.