ينشأ الإنسان على التقليد وتمثيل من حوله، فى البدء يقلد والديه، إن رأى أباه يصلى صلّى وإن رأى أمه تسب وتلعن وتصرخ سب ولعن وصرخ، ثم يتحول بعد سنين عن هذين الجاثمين على حريته وحركته بالتأنيب والتربية والعقاب متخذاً من البيئة حوله مثلاً قد يكون عماً أو خالاً أو معلماً أو أسطى أو غيرهم. وفى مراهقته قد يحتذى نجماً لامعاً من نجوم الشاشات والبطولات، ثم إنه قد لا يتبع أحداً ويتخذ قدوته سلوكاً من هنا أو هناك مما يراه نافعاً أو محبباً أو قيمياً.
فى كل مرحلة كإنسان ومواطن له أنموذج يتمثله، ثم إنه غالباً ما يبيع كل هؤلاء بعدما اكتشف الزيف نتيجة المواقف التى شاهدها والمعلومات التى حصّلها.
وفى مجتمعات دون أخرى، تسيطر قيم وأخلاق وسلوك وصفات وإشارات وتعبيرات، ويظل لها الحضور الفاعل والغلبة، رغم أن هذه الصفات المتخذة مثلاً قد تكون الأسوأ؛ كالكذب والانتهازية والفهلوة والنفاق؛ لأنها تتناقل من جيل لجيل، ومن البيئة المحيطة لأبنائها، ولأنها على الأغلب التى شعر الأفراد بسيادتها وجدواها فى ظل سماح الأسرة والمجتمع والدولة بها عرفاً، وعملياً، وفى ظل عدم العقاب الجدى عليها.
وقبل ظهور الإذاعة والتليفزيون، كان بثُّ القيم مقصوراً نظرياً على الأسر والبيئة المحيطة ومصادر التعليم، فى ظل محدودية وسائل وطرق المواصلات والاتصالات، والمعاملات الاقتصادية التى تسيطر عليها الأسر والاحتكارات، مما ساعد الرأى العام فى الضغط بشدة وحصار ومنع الأفراد من الخروج عليه، بل كان نابذاً ونافياً وطارداً من الأسرة والمجتمع والعمل، ما جعل قيم هذه الفترة، سواء كانت سلبية أو إيجابية خيراً أو شراً، لها قدر عالٍ من الثبات الذى يشعر الأفراد بالاستقرار المزيف والإحجام فى مواجهة بعضهم ومجتمعهم وحاكمهم.
وبانضمام وسائل الإعلام -والإعلان- تمت مشاركة ومنافسة الوسائل السالفة فى تسويق قدوات أخرى وتغليب قيم على أخرى.
ولما كانت وسائل الإعلام والإعلان فى الدول الاستبدادية تعمل على خدمة الحاكم أساساً، لا القيم الموضوعية ولا العليا إلا عرضاً، بالدعاية لأهدافه وترسيخ حكمه أياً كان، فقد صارت القدوة والنماذج القيمية الرئيسية التى يعرضونها للشعب هم الموالين للحاكم ترسيخاً لقيم الولاء والطاعة أساساً قبل أى قيم أخرى، وهى قيم جيدة إن اتفقت مع حقيقة الحال وواقعه، وإلا كانت نفاقاً يستشعره الناس الذين يعيشون واقعاً يناقض ما يسمعونه.. يسمعون عن الحرية والمساواة والعدالة، بينما يعانون المحسوبية والظلم والقمع والفساد، ما يرسخ قيم الالتواء والنفاق وما شابه. ثم إن وسائل الإعلام (الحاكمية - المنسوبة للحاكم)، بسلوكها هذا تمثل عبئاً على القيم العليا التى يجب أن يتمثلها الناس، فضلاً عن أنها تشكل ضغطاً على المعارضين للحاكم بالإساءة لأشخاصهم أو بمنعهم من الظهور ليحدثوا شعبهم حتى يسلموا ويتخففوا من حقيقة معارضتهم وحدتها، ما يصمهم حينها بالمداهنة، ما ينقل قيمة سلبية مضافة. بظهور «النت»، صار هناك مواقع أخرى يستقى منها الناس أيضاً قيمها وقادتها وقدوتها؛ إذ تتعرف على معلومات أكثر وأخبار أصدق، يغربلونها ويحللونها ويعلقون عليها بأنفسهم ويعبرون عنها بطريقتهم دون حاجة كبيرة لهؤلاء الذين تُجلهم وسائل الإعلام الحاكمية.
لقد تعددت المصادر النظرية التى تسهم فى صياغة القيم، وصارت القدوات غالباً، بفضل المعلومات وكشف مواقفها المتناقضة، مفضوحة.
إننا فى سعينا للقيم العليا نقترب من أن تكون القيم المجردة ذاتها هى القدوة والمثل الأسمى الذى يتبعه القلب السليم.