بالصور| أول يوم في "سوق الترجمان".. لا بضاعة ولا بائعين والزبون الوحيد "عسكري"
العشرات من رجال الأمن، ومئات من الباعة، ورصيف خال من البضائع، ومكان لم يعرف طريقه زبون من قبل، الوصف المناسب لـ"سوق الترجمان" التي شيدته الحكومة لنقل الباعة الجائلين بوسط البلد وبعض المناطق إليهم، بحجة تسهيل حركة المرور واستعادة المشهد الحضاري.
أصوات مشادات ومسؤولين يتحركون، وضباط رفيعو الرتبة ينتشرون بالمكان، وبائعين بلا بضاعة حرصوا على ترسيم أماكنهم وتمييزيها برسم خطوط على الرصيف، وآخرين غابوا في مشادات كلامية مع بعضهم البعض وبعض المسؤولين لعدم وجود أماكن لهم، وعدم تسليمهم أماكن خاصة بهم في السوق.
وسط هذا الزخم يجلس رجل في الخمسين من عمره، جلبابه البسيط وعمامته تدل على انتمائه لصعيد مصر، يضع حفنة من الأحذية أمامه، غير مكترث لعدم وجود زبائن، وبهدوء وسكينة يقابل الجميع بابتسامة غير متأثر بصوت الضجيج من حوله..
" أنا كنت بفرش عند محطة الإسعاف والحكومة قالت نروح الترجمان سمعنا الكلام عشان أنتو معطلين المرور روحنا جينا على هنا وماعترضناش".
يضع يده على خده ويقلب "عم رمضان سلطان" في أحد الأحذية، تبدو على عينه علامات الرضا، قائلًا: "رزق هنا رزق هناك بس لازم الحكومة تساعدنا وتوفر لنا مكان مناسب"، مُبديا اعتراضه على نية المحافظة تحصيل 15 جنيهًا كإيجار للمكان من كل بائع: "أنا ما عنديش مشكلة ادفع المبلغ ده بس أضمن أن هاكسب كويس والمكان هنا يكون مناسب".
لا وجود لأي ملامح تدل على إمكانية إقامة سوق في المكان، فلا وجود لدورات مياه ولا مخازن لبضائع البائعين، ولا زبائن.. "لو الدنيا ظبطت هنا والزبون جه هانقعد ولو الزبون مجاش هانرجع نلعب القط والفار تاني مع الشرطة في الشوارع"، كلمات أخرى رددها.
يعيش رمضان مع أولاده الستة وزوجته في غرفة فوق السطوح بميدان العتبة، ومع ذلك يبدو عليه الرضا بالمقسوم.. "إحنا عاوزين نساعد الحكومة والحكومة تساعدنا، أنا ساكن في العتبة فوق سطوح وبدفع 50 جنيه في الشهر".
يصف عم رمضان مقر رزقه الجديد بـ"غير مناسب"، فهو منذ أن وصل إلى المكان لم يبع من بضاعته سوى حذائين لنائب محافظ القاهرة، وبعض الأحذية لأفراد الأمن الموجودين بالمكان.. "الرزق هنا ضعيف، وبره بكسب 70 أو 80 جنيه، بصرف منهم 40 جنيه وبروح الباقي لعيالي، وبقالي يومين ما بعتش حاجة"، ومع ذلك تبدو على ملامحه التفاؤل والأمل بتحسن الأحوال، قائلًا" "نتمنى من الرئيس السيسي أن يأخذ باله مننا، إحنا الغلابة، واحنا بنعتبره جمال عبدالناصر الجديد".
وسط الضجيج الذي لا ينقطع عن المكان، يقف وسط الباعة، أحمد حسين نقيب الباعة الجائلين، يحاول أن يهدئ من غضب بعض من لم يحصل على مكان في السوق، يبدي اعتراضه على مكان إقامة السوق، قائلًا: "إحنا كنقابة وكل الباعة الجائلين معترضين على مكان الترجمان، بس لما المحافظ جابلنا مكان بديل وحطنا قدام الرأي العام أن أحنا متوفر لنا مكان حبينا نثبت للناس والرأي العام أن المكان ده فاشل فنقلنا فيه والله لو نجح هنتأسف ونقول أحنا كنا غلطانين، ولو فشل وده المتوقع هنطالب المحافظة بتخصيص مكان تاني لينا".
شكل محافظ القاهرة لجنة لحصر مشاكل الباعة الجائلين بوسط البلد، وبعد أن تم حصر الباعة، ألغيت هذه اللجنة وتم عمل حصر للباعة من جديد، ما أدى إلى عدم حصول بعض الباعة على أماكن بالسوق.. "اللجنة حصرت 3 آلاف بائع وجميع بائعي طلعت حرب وقصر النيل و26 يوليو البائعين دول محدش فيهم أخد مكان في الترجمان لحد دلوقتي"، وطمأن حسين الباعة بخصوص مشكلة التواجد الأمني وعدم وجود ما يضمن حماية البضاعة الخاصة بالبائعين بالسوق، قائلًا: "النهاردة نائب المحافظ مضى بروتوكول بين شركة أمن وشكرة أمن خاصة، دي شغلتها حماية الباعة الجائلين هنا، وحراسة بضاعتهم".
في أحد زوايا الموقف، اتخذ أشرف إبراهيم منه مكانًا له، يضع فيه بضاعته بإتقان، ينتظر زبونه الذي لم يأتِ ولن يأتي، وفي يأس، يلملم بضاعته في صندوق خاص، ويستعد للرحيل إلى بيته صفر اليدين، قائلًا: "مافيش شغل لا إمبارح ولا أول إمبارح، مسترزقتش بجنيه حتى، والنهاردة جه اتنين عساكر اشتروا مني واحد اشترى شرابين بـ6 جنيه والتاني أخذ 3 بعشرة، هروح بيهم واخد تاكسي لبيتي لأن أنا مينفعش أسيب بضاعتي هنا هتتسرق".
يعبر إبراهيم عن غضبه تجاه المكان، فهو غير مناسب الباعة، وهو لا زال يتذكر الأمس القريب عندما كان يبيع "جواربه" في حي باب اللوق قبل أن تقوم قوات الأمن بطرده منه.. "الأمن بهدلنا وشال البضاعة بتاعتنا وأنا جيت هنا بقالي تلات أيام ولغاية دلوقتي ما بعتش حاجة تذكر".
ورغم كرهه لمكانه الجديد إلا أنه يصر على التواجد به .."غصب عني لازم أنفذ أوامر الحكومة، هما بيقولولي كمان 6 أشهر ونروح وابور التلج، ولو سيبت المكان ده دلوقتي، هيدوه لغيري، حتى لو مبعتش هاجي هنا عشان أحجز مكاني".
تحت إحدى المظلات يقف رمضان، في الخمسين من عمره، يحمل معه ورقة صغيرة، هي كل ما حصل عليه من ضمانات لاستلام مكانه في السوق، يتذكر مكانه القديم قائلًا: " كنت ببيع نضارات في طلعت حرب، ومستني الدنيا تهدى وتروق كدا عشان أنقل هنا والمكان يعرفه الزبون، وبقالي تلات أيام قاعد في البيت".
بوجه متفائل يتطلع رمضان إلى السوق الجديد، ويعبر عن أمله في نجاح المكان كسوق تجاري يقضي على المشكلة الأزلية بين الباعة والشرطة، قائلًا: "المكان هنا هيبقى أحسن من طلعت حرب لو جاله زبون لأنه محدد ومترخص، وهيبقى تحت إشراف الحكومة، ومحدش هيرخم علينا، بس مشكلته في الزباين بس".
بزيه الأبيض الناصع، وبنظارة شمس تحميه من قسوة درجات الحرارة، يتجول اللواء طارق جميل وكيل إدارة شرطة المرافق، ليطمئن على السوق الجديد، ويؤكد لـ"الوطن" أنه تم تسليم أكثر من 1500 بائع لأماكنهم بالسوق، وما تبقى عدد قليل جدًا سوف يتسلمون أماكنهم في الغد، وينفي وجود أي مشاكل في عملية تسليم الأماكن للباعة.. "في مكان لكل البائعين".