لم يدرك البعض المعنى الرئيسى للانتقاد الذى وجهته الخارجية المصرية لعمليات القمع الأمريكية ضد المتظاهرين فى أحداث فيرجسون الأخيرة. فهو ليس انتقاماً من الولايات المتحدة على مواقفها غير الشريفة من مصر على مدى سنوات مضت، أو تحديها للإرادة المصرية التى رفضت حكم الإخوان فى «30 يونيو» بعقوبة قطع المعونة، وهو أيضاً ليس مجرد رسالة قوية من مصر للإدارة الأمريكية لتُشعر واشنطن بمرارة التدخل الخارجى فى شئون داخلية لمجرد أن دولة مصابة بغرور القوة تريد أن تفرض سيطرتها على العالم، وهو أيضاً ليس لمجرد إحراج الولايات المتحدة أمام شعبها وأمام العالم، لأنه يفضح الازدواجية الأمريكية فى التعامل مع المواقف.
فالرد الأمريكى المتعصب مرتين متتاليتين يؤكد أن كل هذه الرسائل قد وصلت، خاصة أن بعض الصحف الأمريكية والعالمية تناولت هذا البيان بالتهكم على الولايات المتحدة. ورغم أن البيان جاء فى صيغة التضامن مع الأمم المتحدة فى دعوتها للشرطة الأمريكية بضبط النفس، فإن الإدارة الأمريكية لم ترد على الأمم المتحدة، ولكنها ردت مرتين على مصر.
ولكن الأهم فى هذا البيان الصادر من الخارجية المصرية أنه بمثابة إعلان عن مرحلة جديدة للدبلوماسية المصرية، وهو تعبير قوى عن عودة مصر لطبيعتها رغم كل الظروف التى مرت بها خلال السنوات الأربع الماضية. ومن الواضح أن لغة دبلوماسية جديده أكثر قوة وأكثر جرأة وأكثر حزماً قد ظهرت خلال الأسابيع الأخيرة، فمثلاً، لم يكن أمام الفلسطينيين والإسرائيليين إلا مائدة المفاوضات المصرية للبحث عن حل للأزمة الأخيرة والتوصل لوقف إطلاق نار ولو بصفة مؤقتة. فمصر كانت الراعى الأكثر أهمية وقبولاً لدى أطراف القضية الفلسطينية، وهذا دور تاريخى لم يتعطل إلا بسبب الظروف الأخيرة التى مرت بها مصر، ولكن الواضح أنه عاد، وتمكنت مصر من التوصل لاتفاقين متتاليين بين الفلسطينيين والإسرائيليين رغم كل الضغوط الدولية التى تمارَس على الأطراف المختلفة فى هذا الاتفاق.
وأعرف أن جهوداً دبلوماسية مكثفة تُبذل الآن للتوصل لاتفاق حول مشكلة سد النهضة الإثيوبى وفق أسس جديدة لم يكن ممكناً القيام بها فى السنوات الماضية، وأعتقد أنها ستؤتى ثماراً طيبة.
والمعروف أن الدولة لا تستطيع ممارسة تأثير خارج حدودها إلا إذا كانت مستقرة داخلياً، ولم يكن ممكناً أبداً أن تبحث مصر عن تأثير خارجى بينما المظاهرات لا تتوقف والميادين مكتظة بالبشر والاحتجاجات لا تنقطع بسبب أو دون سبب وتفجيرات واشتباكات، والإعلام العالمى ينقل هذه الأحداث، والبعض من وسائل الإعلام تلك يبالغ فى وصف هذه الأحداث. ومعنى الإحساس بعودة هذا الدور الدبلوماسى المصرى أننا بدأنا نتعافى من الأمراض التى أصابتنا منذ 2011، وحنى إن كان التعافى ببطء، فإننا والحمد لله نتعافى، فغيرنا من الدول أصيب بما أُصبنا به، وانتهى بها الأمر إلى التقسيم. وما مرت به مصر ظلم وزراء خارجية أكفاء تولوا المسئولية خلال السنوات الأربع الماضية، منهم محمد العرابى ومحمد كامل عمرو ونبيل فهمى، ولكن طبيعة المراحل الانتقالية وفى ظل عدم وجود رئيس مستقر أدى لعدم وضوح الرؤية الدبلوماسية، وحتى حينما انتُخب رئيس بالفعل من يونيو 2012 حتى يونيو 2013، كانت توجهاته تخالف العقيدة الدبلوماسية المصرية، وهو ما حمّل الوزير محمد كامل عمرو تحديداً بأعباء ثقيلة للغاية، وربما يأتى الوزير سامح شكرى فى ظروف أفضل بكثير لتتاح له الفرصة لإثبات مهارته التى أعرفها، فهو دبلوماسى حصيف غزير الخبرة قليل الكلام، ولكنه يجيد التأثير، وتواكب وجوده على رأس المؤسسة الدبلوماسية المصرية مع وجود رئيس منتخب بإرادة شعبية جارفة، ولا يمكن أبداً لوزير الخارجية أن يحدد سياسة خارجية لبلاده دون التنسيق مع رئيس الجمهورية الذى يضع رؤيته فى هذا الاتجاه، وبناء عليها يتحرك وزير الخارجية ومجموعته، وأذكر أن فى مكالمة هاتفية مع الوزير الأسبق أحمد أبوالغيط رداً على مقال لى منذ 6 سنوات، قال لى إن الرئيس هو الذى يضع السياسة الخارجية بالتنسيق مع الوزير، والوزير هو المسئول عن تنفيذها.
والحقيقة أنه خلال السنوات الماضية فقدت مصر الكثير من تأثيرها الخارجى، فلم يعد لها تمثيل مناسب فى المؤسسات والمنظمات الدولية أو حتى فى الجامعة العربية، والمطلوب أن يعود هذا التمثيل بشكل أكبر، وهو ليس ترفاً أو مكافأة لأشخاص أدوا أدواراً فى مراحل معينة، ولكنه يفتح آفاقاً أكبر للتأثير الدبلوماسى المصرى فى المحافل الدولية، ويحفظ لمصر مكانة أفضل بين دول العالم.