تلك المفارقة ليست لطيفة أبداً رغم البسمات المصاحبة لروايتها، بل تدعو للإحساس بالخيبة والمرارة والأسى لا بالطرافة.
إنها مقارنة حالة الأب أحمد سيف الإسلام عبدالفتاح، الذى وُلدت ابنته بينما كان مسجوناً فى قضية رأى سياسى فى عهد «السادات» بابنه علاء عبدالفتاح الذى وُلد ابنه بينما كان محبوساً فى قضية رأى سياسى.
وليست مفارقة طريفة أن نتذكر أن الأب قد عُرض على النيابة عام 1972 بعد القبض عليه فى مظاهرات تطالب برد هزيمة إسرائيل والتعجيل بحربها فى معهد أمناء الشرطة، نفس المكان الذى يحاكَم فيه ابنه الآن فى قضية رأى سياسى (بسبب رفض المحاكمة العسكرية للمدنيين، وحصل لذلك على حكم بسيط: 15 عاماً بالسجن!).
وليس طريفاً أن نتذكر أنهما سُجنا فى سجن الاستئناف وليمان طرة وأن كليهما سلم نفسه ولم يهرب.
ذكريات يلزمها غضبٌ جم، الآن لم يعد ممكناً أن نعقد مقارنات ليس فقط لأن ثورة قامت فحررت ولا لأن نصف قرن مضى ومن يتبعه تخلف، ولكن لأن الأب مات!
الآن ابنه علاء وابنته التى وُلدت أثناء سجنه فى عهد «مبارك» محبوسان فى قضايا رأى سياسى. إنها مأساة أننا بعد هذا الزمان وبعد التطور السياسى والديمقراطى الذى لحق بلدان العالم وبعد ثورة ما زالت بلادنا فى نفس المكان الذى كانت فيه تقبض على المواطنين لأنهم يقولون رأياً سياسياً. وما زال يحكمنا نفس الحكم. إنها ليست مفارقة، بل استمرار ممل ومخزٍ بلا أى اختلاف يُذكر، ويدل على استمرار القمع وانتهاك الحريات الأساسية والأصيلة للمواطن منذ «السادات» وحتى «السيسى».
ولذلك اعتذر أحمد سيف الإسلام لابنه وجيله أنه -وجيله- ورّثهم السجون ولم يقدم لهم الحياة الكريمة والديمقراطية التى سعى إليها وطالبهم ألا يورثوا أحفاده أبناءهم هذه الحياة.
لماذا يصر رجل أن يقضى حياته ويربى أبناءه من بعده على أن يكونوا مدافعين جميعاً بشجاعة نادرة عن الحرية والعدل والحق لشعبهم رغم يقينهم أنهم على أطراف وحدود السجون ترقباً وانتظاراً مع كل كلمة وفى أى موقف بل فى قلبها سيدفعون ثمناً باهظاً من عمرهم ورفاهيتهم؟ ما الذى يدفعه ويدفعهم للسير على خطى محتومة بالألم والظلم والحصار والقلق والمراقبة. إنه الخير واليقين اللذان قلما توافرا إلا للأنبياء الذين حملوا أفكارهم ومشوا بها بين الناس وواجهوا بها الظالمين فانتصروا.
ظل الرجل على تجرده ودينه هذا منذ أزله وأصر عليه، بينما شعبه لم يعرفه إلا قليلاً وأخيراً. أصر على ذلك خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1977 فدرس القانون فى فترة سجنه وحصل على ليسانس الحقوق عام 1989 لتأكيد تصميمه على مقاومة الظلم، وأصر على ذلك وهو يلقى الضرب والتعذيب بالكهرباء فى السجن فيخرج جامعاً أمره هو اليسارى أن يدافع كمبدأ عن كل صاحب رأى أياً ما كان اتجاهه ودون اعتبار لموازين أو حسابات أو مواءمات، فقط سيدافع عن الحق الأصيل للإنسان وكرامته.. أى إنسان.
يقول أحمد سيف الإسلام: «لن نسمح فى أى وقت من الأوقات أن نبرر حتى لأنفسنا إهدار كرامة الإنسان». وأصر على ذلك وأولاده وزوجته يلقون نفس المصير: الضرب والتعذيب والسجن، وكأن السجن والشوارع صارت منازل العائلة ذات المستوى العلمى والاجتماعى العالى. إنها سيرة مصرية جديرة بالفخر والقراءة والمعرفة والتمثل وبكتاب الدراما.
يموت «سيف الإسلام» بإصراره وعدم تسليمه ودون أن يطلب رفقاً مع ابنه وابنته المحبوسين فى وقت واحد، ونتيقن أن الحق أقوى من القمع والعنف والسلطة، وأنه يلتمسه بعمله، وأن معركته مستمرة وسينتصر.
ويظل الحر الذى لم يسلم راية خطراً مستمراً وقلقاً مزمناً لعدوه طالماً لم يقبل بقمع أو ظلم أو استبداد.
انتصار الحق والحرية والعدل محتوم ولا يعدو كونه مسألة وقت كما التاريخ!