عندما نوجد فى عالم بلا وقت Timeless وبلا مكان spaceless وبلا وعى دنيوى بعد أن تصعد أرواحنا إلى بارئها، فإننا -وحسب نظرية «الأكوان المتعددة» التى وضعها الدكتور روبرت لانزا- وبمقاييس العالم الذى نحيا فيه، نسمى ذلك بالموت، ولكنه بمقياس عالم آخر هو حياة لا نستطيع أن نعلم قوانينها إلا من خالقها، فهناك نوع آخر من الوعى أخبرنا به المولى -عز وجل- عندما ينكشف الغطاء وترفع الحجب {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق: 22)، حيث لا مكان للزمن، فـ{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} (الحديد: 3)، لا ماضى ولا حاضر ولا مستقبل، فنجده -عز وجل- يأتى بالماضى والمستقبل فى نفس الوقت فيقول: {أَتَىٰ أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} (النحل: 1).
ورحلة الموت فى عالم البرزخ إنما هى رحلة مملوءة بالغموض فى عالم له قوانينه الخاصة به، والذى نعرف البعض عنه من خلال القرآن والسنة، فبعد الموت يبلى الجسد، فكيف يكون العذاب أو النعيم الذى قال عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم: «القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار»، ويقول المولى -عز وجل- فى سورة غافر {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (الآية 46)؟ إذن فاستعراض العذاب فى القبر إنما هو جزء من العذاب للترهيب، واستعراض النعيم إنما هو جزء من النعيم للتشويق والاطمئنان.
وعن كيفية العذاب، وكيف يعذب شخص وبجانبه فى القبر شخص صالح فى جنات النعيم، الإجابة هى أن أى شخصين يمكن أن يناما بجوار بعضهما، فيحلم شخص بجنات النعيم التى بها كل ما تشتهى الأنفس، أما الآخر فيحلم بثعابين تريد أن تأكله ولا يستطيع الهروب منها، والذى يراهما نائمين لا يستطيع أن يفرق بين حلميهما، والنوم هو ميتة صغرى فقد قال عز وجل: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الزمر: 42).
ولكن هل يتزاور الموتى؟ إن واقعة فاطمة الزهراء عند موت الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما أسرَّ لها بشىء فبكت ثم أسرَّ لها بشىء آخر فضحكت، وبعد موته -صلى الله عليه وسلم- سألتها عائشة عن ذلك فقالت: «فى المرة الأولى قال لى: يا فاطمة، إن هذا مرض الموت، فبكيت، ثم قال لى فى المرة الثانية: يا فاطمة، ستكونين أول من يلحق بى من أهل بيتى، فضحكت»، فاستدل العلماء من هذا -كما يقول الإمام الشعراوى- على أنه بمجرد الموت يكون اللقاء بين الأموات، وإلا لما فرحت فاطمة لقرب لقائها بأبيها -صلى الله عليه وسلم- فلو أن اللقاء بعد البعث لما كان هناك فرق بين أن تكون الأولى أو الأخيرة التى تلحق به.
وأتذكر حادثاً شخصياً عندما استيقظت أمى -رحمة الله عليها- من نومها وروت لنا رؤيا بأن جدى يخاطب جدتى، وقد توفيا قبلها، ويقول لها فرحاً: تعالى نكنس القبر ونجهزه فابنتى «فلانة» مقبلة اليوم، وبالفعل توفيت أمى فى نفس اليوم ولم تكن مريضة، وكنا نقضى المصيف فى الإسكندرية وفى منتهى السعادة.
وكثير منا يفقد والديه أو أبناءه ويفارقهم بالموت، فلا تحزن يا صديقى المكلوم ويا صديقتى المكلومة، فقد سافروا فى رحلة طويلة إلى عالم آخر، فأحسن عملك حتى تلتقيهم، فقد قال عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَىْءٍ} (الطور: 21)، وقال ابن عباس فى تفسير هذه الآية: «إن الله ليرفع ذرية المؤمن فى درجته وإن كانوا دونه فى العمل لتقر بهم عينه»، ثم قرأ الآية السابقة، إذن فالأموات تتلاقى وتتزاور وتأتنس ببعضها فى عالم البرزخ.
ولكن هل يشعر الأموات بالأحياء وبما يفعلون؟ والإجابة: نعم، يقول فضيلة الشيخ الشعراوى -رحمه الله: «إن الموتى يشعرون بنا، وإلا لما قلنا عند زيارة القبور: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون ونحن إن شاء الله بكم لاحقون»، ويجيب عن هذا أيضاً الدكتور عمر عبدالكافى قائلاً: «كان الصحابى أبوالدرداء يدعو فى كل صلاة قائلاً: اللهم لا تجعلنى أعمل عملاً أخزى به أمام ابن خالى عبدالله بن رواحة -وهو الصحابى الجليل الذى استشهد فى غزوة مؤتة- فسألته زوجته: لماذا تقول ذلك؟ فأجابها: يا أم الدرداء، إن الميت ليخزى بعمل الحى».