مات الفقيه القانونى عظيم القدر والمقام والقيمة محمد كمال عبدالعزيز، مات الرجل العلامة الذى أثرى المكتبة القانونية وأضاف للدنيا علماً ونوراً، مات الذى لم تر مصر من هو فى علمه وفقهه، فإذا كان لكل علم فقيه كأبى حنيفة، فالذى أتحدث عنه هو أبوحنيفة القانون المصرى والعربى، وَاحَرّ قلبى على موت «إمام أهل الرأى» فى القانون، ويا لحسرتى على العِلم الذى انتُزع انتزاعاً بموته، ومع حسرتى لموته كانت حسرة أخرى، فحين مات منذ يومين بحثت فى المواقع الإخبارية كلها عن خبر وفاته فلم أجد أحداً ذكره، أهكذا! يموت الهُمّل من الرجال ممن ليس لهم أى ذكر أو إثارة من علم، أو قيمة فى عمل، فنسمع الصخب والضجيج، ويموت أسياد الرجال ممن ملأوا الدنيا علماً وعملاً فلا يحفل لموتهم أحد! أهكذا يا أهل الصحافة والإعلام، أهكذا يا أيتها الدنيا التى نعيشها! هل تعرفون من هو محمد كمال عبدالعزيز؟! لا أظنكم تعرفونه، ولا أعتقد أنكم ستعرفونه، فقط سيذهب من يعرفون فضله وقيمته إلى العزاء الذى أعدته أسرته، وسيصافحون أفراد عائلته وهم يرسمون على وجوههم ابتسامة شاحبة، ويتمتمون بشفاههم كلمات مُضغمة غير مفهومة، ثم سيجلسون فى هدوء يستمعون إلى تلاوة خاشعة للقرآن يلقيها عليهم الشيخ فلان، سيجلس المعزون فى مقاعدهم الوثيرة يرتشفون القهوة أو يشربون الشاى المخصوص الذى سيعده لهم «النادل»، وسيشربون الماء البارد فى هذا المساء الحار، ثم سيبحثون بعيونهم عن أفراد يعرفونهم من هنا أو هناك، فإذا وجدوا بغيتهم هرعوا إليهم وتبادلوا معهم أرقام الهواتف لتأخذنا وتأخذهم الدنيا بعيداً عن هذا الميت الذى سينشغل الناس عن ذكره.
ولمن لا يعرف فإن محمد كمال عبدالعزيز هو أفقه أهل مصر والأمة العربية فى القانون، ولا أرانى مبالغاً فى هذا، بل إننى قد لا أستطيع أن أُعطيه حقه، وحين كنت أنظر إلى اللجان القانونية والدستورية التى تشكلت من بعد ثورة يناير إلى الآن ولا أجد «كمال عبدالعزيز» رئيساً لها وفقيهها كان العجب يأخذنى، أعندنا «عبدالعزيز» ونقع فى تلك الورطات الدستورية والقانونية، يا لضيعة رؤساء اللجان القانونية والدستورية وهم يأنفون أن يسألوا «عبدالعزيز» فقيه العصر، أضاعونا معهم أضاعهم الله، أخزاك الله يا رئيس لجنة دستور الإخوان يا من كنت تعتبر كمال عبدالعزيز أستاذك، فهل تذكرته وأنت تجر مصر لمستنقع آسن؟!
أما فى السياسة فقد كان كمال عبدالعزيز مصرياً عربياً مسلماً وكفى، ولعلى أيام مؤامرة تشكيل لجنة دستور الإخوان، كنت الوحيد الذى قال على الهواء فى إحدى القنوات الفضائية: لماذا لا يكون كمال عبدالعزيز هو رئيس لجنة إعداد الدستور؟! الرجل على قيد الحياة وصحته تسمح برئاسة اللجنة فلماذا لا تستعينون به؟! ولكنهم وضعوا أذناً من طين وأخرى من عجين، وشكلوا لجنة إعداد الدستور من زعيط ومعيط ونطاط الحيط، ومع الدستور الحالى طلبتُ نفس الطلب، ولكن «لا كرامة لنبى فى وطنه».
الآن تريدون التعرف على محمد كمال عبدالعزيز، حسنٌ لن أكتب سيرته كما تكتبون سيرة الأفراد العاديين من الناس، فأى فرد عادى نقول إنه ولد فى يوم عادى لأسرة عادية وعاش عيشة عادية وتخرج فى كلية عادية وتزوج من فتاة عادية وأنجب أبناءً عاديين ثم مات فى يوم عادى، أليس كذلك؟ ولكننى حين أردت أن أكتب سيرة رجل غير عادى توقف القلم عن الصرير، وجف الكلام فى حلقى! ولكننى سأغتصب الكلام اغتصاباً، وسأقول لكم هل تسمحون لى أولاً بالتوقف مؤقتاً عن الذى كنا نتحدث فيه فى مقالات سابقة، لأتحدث معكم لمرة واحدة عن الذى أنا فيه؟ لا تقلق يا صديقى فلن أبث لك شجونى وكآبتى، فأنا أؤمن ببيت شعر فى قصيدة المساء للشاعر العظيم خليل مطران قال فيه عن نفسه: «متفردٌ بصبابتى متفردٌ بكآبتى متفردٌ بعنائى»، وكذلك أنا.
خذها من قلبى ولا تأخذها من قلمى، فأنا يا صديقى قد تضاعفت بُرَحَائى عندما علمت بخبر وفاة الرجل النادر محمد كمال عبدالعزيز الذى جمع بين الحسنيين، فكان قاضياً لا نظير له، ثم أُخرج من القضاء فى المذبحة الشهيرة، فعمل فى المحاماة وهو لا يجد قوت يومه، وعانى معاناة رهيبة، ثم فتح الله له أبواب الخير والعِلم فأصبح أبرع المحامين الذين يعملون فى المجال المدنى، ثم زاده الله حكمة فأصبح شيخاً للمحامين، ومع ذلك سأقول لكم بعض لقطات من حياته، كانت حديقة نقابة المحامين هى المكان الذى تعرفتُ فيه على هذا العلّامة، ففى أوائل عام 1981 وعند افتتاح معهد المحاماة طلب منى أستاذى محمد علوان، رحمه الله، أن أحضر المحاضرة القادمة، وعرفتُ منه أنها لشخص اسمه «محمد كمال عبدالعزيز» فسألته: هل هى محاضرة مهمة ينبغى ألا أتخلف عنها، فرد قائلاً: «يابْنى ده محمد كمال عبدالعزيز»! فخجلتُ من جهلى بهذا الرجل وحضرت المحاضرة التى انعقدت فى حديقة النقابة ليلاً، وكانت مفاجأة لى أن رأيت الحديقة غاصة بالآلاف من المحامين كبارهم وشبابهم! وكانت أمتع وأروع محاضرة استمعت لها فى حياتى، ويكفى أنها جعلت لى عقلية منهجية تستطيع الموازنة والترجيح والتأصيل.
ومرت الشهور وأخذت أقفز فى عالم المحاماة وإذا بى أكتشف قضية إيجارات مشتركة بين مكتب الأستاذ محمد علوان ومكتب الأستاذ كمال عبدالعزيز، فطلبت من الأستاذ علوان أن يجعل هذه القضية من نصيبى، وقد كان، ومن خلالها كنت أذهب لمكتب هذا الرجل وأجلس معه وأستمع له، وهو يتعامل معى بتواضع شديد وأنا الصغير الذى لا يكاد يُبين! وعرفت منه أنه عندما خرج من القضاء إبان المذبحة الشهيرة عرض عليه الأستاذ علوان أن يشاركه فى مكتبه فى الوقت الذى كان الجميع يتهربون منه، ولكنه آثر أن يشترى بقروشه القليلة مكتباً من صديق له لم تسعفنى ذاكرتى على تذكر اسمه لأننى أنقل لكم من الذاكرة دون الاستعانة بشىء أكون قد كتبته من قبل.
ومنذ البواكير الأولى له وهو يكتب فى القانون، فأضاف للمكتبة القانونية كتبه الشهيرة عن قانون المرافعات والقانون المدنى وغيرهما من التى لا غنى عنها فى أى مكتبة رجل قانون، ولك أن تعلم أنه من خلال طعون النقض التى كتبها أخرجت لنا محكمة النقض عشرات المبادئ القانونية التى أصبحت علماً مستقراً فى وجدان القانون المصرى، والغريب أننى رأيت مشهداً غريباً اقشعر له بدنى فى قضية جنائية كان يترافع فيها هذا العلامة، إذ أبدع كمال عبدالعزيز فى المرافعة وهو غير المتخصص فى المنازعات الجنائية، وكان يترافع معه عن نفس الموكل أحد أساطين القانون الجنائى هو المرحوم عاطف الحسينى، الساحر اللبيب، وإذ انتهى «عبدالعزيز» من مرافعته اقترب منه الحسينى قائلاً: من حسن حظى أنك لا تعمل فى الجنائى إلا نادراً وإلا لكنتُ أغلقت مكتبى! أما مبلغ فخرى فهو أن الأستاذ كمال عبدالعزيز طلب منى ذات يوم من أيام عام 1998 أن أترافع عن ابن شقيق له كان قد اتهم فى جنحة ظالمة، فحضرت وترافعت وحضر الأستاذ كمال الجلسة إلا أنه آثر أن يجلس مستمعاً لى ولم انتبه لحضوره إلا بعد إتمام مرافعتى، وحصل ابن شقيقه على البراءة، وسبحان من له الدوام، إذ كان نعى الأستاذ كمال عبدالعزيز لا يتضمن المفاخر التى يكتبها الناس عادة فى هذا الصدد، فقط مجرد اسمه وأبنائه وزوجات أبنائه وشقيقه الذى توفاه الله، ولكننى فوجئت أن النعى تضمن اسم ابن شقيقه الذى ترافعت عنه يسبقه لقبٌ جديد هو «المرحوم»! فرحمة الله على الجميع.