لم أعرف ما الذى أقوله للصديق العزيز مؤمن رضا حافظ.. ونحن فى قاعدة ألماظة الجوية ننتظر جثمان والده.. كان الموقف مؤثراً للغاية.. وكانت تلك هى المرة الأولى التى يحضر فيها الرئيس عدلى منصور وإلى جواره «الفريق أول» عبدالفتاح السيسى، جنازة رسمية لمسئول كبير.
(1)
كانت ذاكرتى تذهب وتجىء ونحن نشهد المراسم الحزينة.. وكان من بين ما تذكرت، تلك الساعات الدقيقة التى قضيتها -مدعواً- فى حفل تخريج الكلية البحرية وكلية الدفاع الجوى بالإسكندرية.
كان الفريق رضا حافظ قائد القوات الجوية قد دعانى لحضور الحفل، وقد بَدَا لى ولغيرى أن حضورى كان غريباً ولافتاً.. ولاسيما أننى جلست خلف مقعد الدكتور محمد مرسى والمشير طنطاوى.. بقليل.
عَرضَ علىّ الوزير منير فخرى عبدالنور أن نذهب معاً من فندق هلنان فلسطين إلى الكلية البحرية، ولكننى تأخرت قليلاً وذهبت مع الدكتور أحمد فهمى رئيس مجلس الشورى فى سيارته.
كانت هذه هى المرة الأولى التى ألتقيه فيها.. قال لى إنه حاول الاتصال عدة مرات، ثم مضى الحديث عن شئون الصحافة والصحفيين.
(2)
لم أكن سعيداً أبداً فى ذلك الصباح.. بل إنه واحد من الصباحات الكريهة التى لن أنساها. ذلك أن حضورى تخريج دفعة فى الكليات العسكرية بحضور الدكتور محمد مرسى «قائداً أعلى للقوات المسلحة» كان قاسياً على نفسى..
كان مُقبضاً وصادماً.. بلا حدود.
كانت الهواجس تتلاحق.. ما الذى سيجرى فى الجيش؟ ماذا لو تحولت عقيدة الجيش من الوطنية إلى الأيديولوجيا؟ ماذا لو أصبح الجيش ذراعاً عسكرية لتيار سياسى لا جيش الشعب والدولة؟
وصلت مع الدكتور أحمد فهمى الذى ينتمى لجماعة الإخوان المسلمين إلى الكلية البحرية، كان رئيس مجلس الشورى ودوداً طيلة الطريق وكان هو الوجه المبتسم الوحيد.
كافة الوجوه الأخرى -المدنى منها والعسكرى- كانت شبه تائهة، لا تُصدق المشهد ولا تتصور اللحظة.. ولا تريد.
قضينا ساعةً من الاكتئاب الجماعى.. كأننا فى سرادق عزاء لا حفل تخريج لأبطال جدد.. وقد قلت للدكتور كمال الجنزورى وقتها: ألا تلاحظ الحزن على الوجوه، لقد طلب معظمنا «قهوة سادة»!
فقط اثنان كانت البهجة تعلو وجهيهما فى ذلك الصباح الغائم.. الدكتور أحمد فهمى والفريق سامى عنان!
كان الفريق رضا حافظ يرتدى الزى العسكرى المهيب لقائد القوات الجوية.. تقدمتُ إليه مصافحاً وعلى وجهى نصف ابتسامة. لكنه صافَحَ بقوةٍ وثبات.. وكأنه يقول: لا تخافوا على جيش بلادكم.
(3)
وصل الرئيس مرسى والمشير طنطاوى إلى المنصة فى العاشرة تماماً.. بعد ساعة كاملة من وصولنا.. وصلا معاً وتقدما معاً.. لكن المشير طنطاوى جلس قبل أن يجلس الدكتور مرسى.. وكان واضحاً عليه حجم الاستياء والامتعاض من «الأوزان» الغريبة التى حكمت تلك اللحظة. كيف كان المشير يحكم البلاد منذ قليل ثم أصبح مرؤوساً لأحد أعضاء جماعة تمثل خصماً رئيسياً للنظام الذى ينتمى إليه.. كيف لرتبة المشير أن «تُعظِّم» لشخص لم يكن المشير يعرف اسمه قبل أسابيع!
من المؤكد أن المشير الذى لم ينظر تقريباً فى وجه الرئيس ولم يظهر أى ابتسامة ولو مصنوعة فى وجه «الضيف الكبير».. كان محكوماً بقواعد «علم النفس» لا قواعد «علم السياسة».
كان المشهد فى مُجمله يحمل الكثير من القلق.. ولابد أن عائلات الخريجين كانت محبطة بشأن المستقبل.. كأن هناك نُصباً تذكارياً جديداً بصدد البناء إلى جانب «الجندى المجهول».. ثّمة نُصب أكبر داخل القلوب.. «نُصب الطريق المجهول»!
لم تمتد الأيادى بالمصافحة، ولا الوجوه بالتهنئة.. لم تنطلق الزغاريد فى هذا الصباح!
(4)
زرتُ الفريق رضا حافظ.. قبل وبعد هذا الحفل مرات عديدة، وقد بدأتْ معرفتى به فى أعقاب ثورة 25 يناير 2011، كنتُ أزوره فى دار القوات الجوية.. وقد أبهرتنى شخصيته الساحرة.. القوة والنزاهة والمعرفة.
تعلمتُ منه الكثير فى العلوم العسكرية والاستراتيجية.. وعرفت منه الكثير ممّا حدث قبل وبعد ثورة يناير.
(5)
كان الفريق رضا حافظ قائداً للقوات الجوية فى عهدىْ الرئيس مبارك والمشير طنطاوى، ثم أصبح وزيراً للإنتاج الحربى فى عهدى الرئيسيْن محمد مرسى وعدلى منصور.. وهى تجربة نادرة لواحدٍ من أفضل جنرالات الجيش المصرى، الذين أدوا واجبهم الوطنى بشرف وامتياز. ولد الفريق «رضا محمود حافظ محمد عبدالمجيد» فى مدينة المحلة الكبرى فى مارس 1952. تزوج من السيدة «نجلاء السيد عمر الشوربجى» التى تنتمى عائلتها -هى الأخرى- إلى المحلة الكبرى.. وأنجب من الأبناء «مؤمن ومحمود ودينا ونورهان». تخرج «مؤمن» فى كلية الهندسة، وتخرج «محمود» فى الأكاديمية البحرية، أما «دينا» فقد تخرجت فى كلية الصيدلة وتخرجت نورهان فى كلية الآداب.
وقد أبلغنى الصديق مؤمن رضا حافظ أن العائلة تعد كتاباً تذكارياً عن الراحل الكبير، وأنه سيتضمن تاريخه العسكرى والسياسى، وملحقاً خاصاً بالصور لتوثيق مسار الرحلة.
الجزء الثانى الأسبوع المقبل:
- هل أقام جمال مبارك فى دار القوات الجوية بعد خطاب التنحى؟
- حين قال الفريق رضا حافظ لعلاء مبارك: هل تريد من الحرس الجمهورى أن يقتل المتظاهرين؟
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر