لويس أرمسترونج.. «بوق الحرية»
لويس ارمسترونج
لكل نوع موسيقى قصة أدت إلى انتشارها، ولموسيقى الجاز حكاية عنوانها «النضال من أجل الحرية ومقاومة اضطهاد العبودية»، ولكن من هو بطل هذه القصة وإلى من يرجع الفضل في صناعة أكثر أنواع الموسيقى أصالةً وسحرًا.
كان لويس أرمسترونج أبرع عازف في التاريخ بلا منازع، هيئته، أدائه، نظراته، وعمق صوته، عناصرٌ جعلت منه فنانًا استثنائيًا ومميزًا، الأمر الذي شكّل نجاحًا مبهرًا لذوي البشرة السمراء، استطاع أن يواجه طوفان العنصرية، ويصنع لنفسه اسمًا في وقت كانت بلاده لا تزال تعيش على أفكار العبودية، حتى بعد إلغائها رسميًا.
«ساحة المعركة»
ولد في الرابع من شهر أغسطس عام 1901 بمدينة نيو أولينز بجنوب أمريكا، عاش طفولته في حي انتشر فيه الفقر والجهل وتفشى فيه العنف، وكان يُسمى بـ«ساحة المعركة». تخلى عنه والده وهو رضيع، وبسبب الظروف القاهرة، ترك «لويس» المدرسة وهو بعمرٍ صغير، وبدأ يعمل ليؤمن قوت والدته وأخته.
عائلةٌ يهوديةٌ تسكن في الجوارِ من منزله، عرضت عليه العمل لديها لحمل الفحم وتوصيله، وكانت هذه العائلة دائمًا ما تدعوه للعشاء، وتجعله يشارك في غناء التهاليل، وساعدته أيضًا على أن يبتاع أول آلة بوق في حياته.
علّم نفسه عزف بعضٍ من موسيقى البلوز، ولكنه كان متعطشًا لأخذ دروس تثقل موهبته، وبعمر الحادية عشرة واجه حادثةً سيئةً نسبيًا، لكن لعلها كانت سببًا في تألقه الموسيقي، وفق ما جاء في تقرير تليفزيوني عرضته قناة «MBC» بمناسبة ذكرى ميلاده، ففي ليلة رأس السنة كان «لويس» يلعب مع أطفال في الشارع، واستطاع أن يأخذ سلاحًا خلسة، ويطلق عدة طلقات في الهواء، لتقبض عليه الشرطة وتضعه في مركز احتجاز الأحداث السود في المدينة، وهناك بدأت رحلته الموسيقية الحقيقية.
مركز الأحداث
خلف أسوار المركز، تعلم العزف على البوق، وموهبته لفتت نظر معلمه الموسيقي بيتر ديفز، الذي اختاره كقائدٍ للفرقة. بعد عامين من الاحتجاز، خرج «لويس» من المركز متطلعًا لمهنة يعمل فيها كموسيقي، وعمل كعازف في الكثير من الفرق التي كانت في الولاية، وفي عام 1921 رحل «لويس» إلى شيكاجو بهدف الانضمام إلى فرقة، وكانت مدينة شيكاجو آنذاك تحتضن موسيقى الجاز ومحبيها وعازفيها، واستطاع «لويس» أن يصنع لنفسه اسمًا لامعًا.
بعدها بسنوات انتقل إلى مدينة نيويورك ليعزف مع فرقة «فليتشر هنديرسن أوركسترا» الشهيرة، وانتهى به المطاف للعودة إلى شيكاجو، حيث أسس فرقة خاصة به، وقدم العديد من التسجيلات الموسيقية، كما بدأ الغناء لأول مرة مما أضاف لشهرته كموسيقي متكامل، وساهم صوته الرخيم في الوصول لقلوب ملايين الناس بسرعة كبيرة.
«All Stars» الاسم الذي أطلقه على فرقته الموسيقية، ومعًا قدموا العديد من الجولات الموسيقية الناجحة حول العالم، وله الكثير من الأغنيات الناجحة مثل أغنية «Hello Dolly» الأغنية التي حطمت قائمة مبيعات التسجيلات بأكثر من مليوني نسخة، متقدمة على أغاني فرقة «البيتلز» الشهيرة، والتي احتلت المقدمة لأكثر من أربعة عشر أسبوعًا على التوالي.
سخرية وتألق
في بدايات مشواره الفني، اعتاد الآخرون أن يسخروا من اتساع فمه، فلقبوه بـ«ساتش مو - satchmo» نسبة إلى «ساتشل» المحفظة الكبيرة، اللقب الذي أصبح يُعرف به طوال حياته، لقب مهين وعنصري، تقبله بكل صدر رحب وأصبح يطلقه على نفسه، ولكن غير هذا اللقب، عُرف «لويس» بأسلوب أداءٍ لم يسبقه إليه شخصٌ آخر.
هو من صنع الأسس والقواعد للجاز، والتي مازالت موجودة حتى وقتنا هذا، حينما كان في صباه لم يكن لمصطلح الجاز وجودًا أو معنى، و«ولويس» جعل من العزف على آلة البوق أداءًا صولو فرديًا غير مفصول عن أداء الفرقة الموسيقية، ولكنه يسلط الضوء على شخص واحد، الشخص الذي يحمل تلك الأداة الساحرة، وجعل من العزف الارتجالي جوهرًا لهذا النمط الموسيقي، وابتكر لويس ما يُعرف بـ«سكاد سينكنج» وهي طريقة تحويل النوتات الموسيقية لكلمات غير مفهومة والتغني بها.
عانى من تشقق شفته العليا بسبب العزف على البوق، لتصبح قاسية كقطعة خشب، الأمر الذي جعله يعالجها أحيانًا بنفسه، عن طريق إزالة الجلد الصلب بـ«شفرة حلاقة»، ويستمر بالعزف. طاقةٌ من السعادة والإيجابية كان ينشرها خلال أدائه الموسيقي، ورغم تعرض أبناء جلدته للعنصرية، اختار أن يركز على الموسيقى، حبه الأول، ويضع الخلافات جانبًا، وبالموسيقى استطاع أن يقاوم اللامساواة وأن يشعر بالحرية.
توفي لويس أرمسترونج في الثالث من يوليو عام 1971، بعمر التاسعة والستين، إثر نوبة قلبية أصابته وهو نائم، ولا يزال العالم حتى اليوم يتذكر الأسطورة التي أعادت تشكيل واكتشاف موسيقى الجاز، وتكريمًا لإنجازاته تمّ تسمية مطار «نيو أولينز» باسمه، ونصب تمثال تذكاري له في حديقة تعد الأكبر في المدينة، أما عن الفنانين فحتى هذه اللحظة يحتفون بذكراه باختلاف مجالاتهم.