إذا كانت بيزنطة قد دخلت التاريخ، واشتهرت بجدلها البيزنطى، وقد كان من حول قضية واحدة محورها طبيعة السيد المسيح والسيدة العذراء، فما بالنا بمصر المحروسة وهى مستغرقة فى الجدل حول عشرات القضايا، ذكرت منها فى مقال الأسبوع الفائت: طبيعة ما جرى فى يناير.. ثورة كان أم مؤامرة؟، وطبيعة ما حدث فى يونيو: انقلاباً كان أم ثورة؟، ودور الجيش المصرى فى التاريخ: حكم عسكر ودكتاتورية أم رأسمالية الدولة الاحتكارية؟، ثم الخطر على مصر: هل هو من إسرائيل، أم من إيران، أم من الجماعات المتأسلمة، وكل ما له مرجعية دينية؟ وأستكمل اليوم بعضاً آخر من سلسلة القضايا الجدلية التى أظنها هى المستنقع الآسن الذى كلما حاولنا الخروج منه، غاصت أقدامنا أكثر وتدافعت إلينا كل الأمراض المستوطنة فى المستنقعات!
إن الفرق بين الجدل الصحى التاريخى وبين الآخر غير الصحى، والذى يعد صخباً أكثر منه جدلاً وحواراً، يكمن فى مدى التراكم ومدى التحولات التى ينتجها فى مسارات الأمم والمجتمعات، وأكاد أجزم أن الإفلاس يبدو واضحاً فى حركة النخبة السياسية والثقافية، وهى تسعى للترتيب لمرحلة مقبلة فيها انتخابات برلمانية وفيها توجه لنهوض شامل فى مختلف جوانب الحياة!
وتأتى قضية التعامل مع النظم السابقة أفكارها وبرامجها ومنجزاتها والمتعاونين معها أو المنتسبين لها أمراً مضافاً لما سبق وذكرته، ليكون السؤال: هل نستمر بما كان مطروحاً من أفكار ونبنى على ما أنجز من إيجابيات ونستفيد من العناصر البشرية طالما لم يثبت إجرامها، أم أنها قطيعة شاملة ينبغى أن تتم مع كل ما كان؟
ومن هذه النقطة، نقطة كيفية التعامل وكيفية تقنين العلاقات بين ما كان وبين ما هو قائم، وما هو آت تنبثق العديد من الإشكاليات، فنجد إشكالية العلاقة بين النقل والاستظهار وبين العقل والإبداع وإشكالية الثنائيات التى أطلت برأسها على المستويين الفكرى والثقافى، تمهيداً لأن تقتحم حياتنا وتصل للقتل والتخريب، حيث بدأ الأمر بثنائيات: الأصالة والمعاصرة، والدين وكل من العلم والفكر والسياسة، والنصوص بين التقديس وبين النقد إلى أن وصلنا إلى مسلم وغير مسلم، وشيعى وسنى وهلم جرا، حتى هبطنا إلى ما هو ميكروسكوبى!، ثم لم نتوقف ليتجه الصخب إلى المرأة جسداً وعقلاً وهل هى إنسان كامل، أم إنسان غير كامل؟!!
ولقد ظن البعض وروجوا لأن هذا الصخب دليل حيوية وتدفق حرارة فى جسد الأمة، وأكاد أقول إنه رغم أن الحرارة تقاس بالترمومتر، فإنها ليست واحدة، فهناك حرارة من الحمى والمرض وهناك حرارة النشاط والهمة واستنفار القوة.. وشتان بين الحرارتين، ولذا فليست كل «حرارة» مرتفعة دليل نشاط وهمة!
إن سمة «الحرث فى المحروث»، و«التبليط فى المبلط» كما يقول اللسان الشعبى أضحت هى الغالبة على حياتنا فكيف الخروج؟
والحديث متصل.