المشردون
منفرداً جاء أرضاً مشققةً بعد انقطاع السيل، يجر رجليه فى تكاسل ألف رفقته.. يصعد درجات السلم الخانعة، يتموضع فوق مبنى مائل لتقبيل الأرض، ممدداً فوق ماسورة حلمه القديم، وكابوسه الحالى.. يشرئب، فلا يجد سوى حفنة مشردين أعياهم وقوفهم فى منعرج بيّن الوصل والانقطاع. يشبهونه كثيراً، بيد أنهم لا يحملون بندقيةً.
هى كم روحاً هصرتها تلك اللعين؟ وكم روحاً تتحين لها؟ تتراقص البندقية بين كفيه، تكشف عورتها، فينهرها ويقبض على عنقها بيدين مدربتين.. يتذكر أول نصيحة صبها العصبى فى أذنه: «طوّق سلاحك وإلا طوَّقك».. يحلم بعنق البندقية وهو يستطيل ويلتف حوله فى خفة الأفاعى ومكر بنات الليل، يسمع حفيفها فيقاوم.. ببطء تدور حول جسده المضمحل تعتصر منه رشفة الأمل الباقية.. يلهث، يهزها، يتأكد أنها لم تزل!
يتنادى المشردون بالأسفل.. يخترعون هتافات يرفلها السجع!! كم يكره السجع! يرى حرفيه إصبعين فى مقابل عينيه.. لو الأمر له لأذاق كل كاهن مشرد منهم وبال سجعه.. من شريعته الرابضة تحته!
تتداخل الهتافات فتسرى رعشة الغضب فى دواخله، يترقب الأصوات تضج، تعلو فتتأرجح بين السماء والأرض ضباباً لا ينقشع، عاد السجع يتسيد، تتجرد الكلمات وتنفضح، فيعلو السجع.. يغيم رأسه، يسنده على إحدى كفيه، وكفه الأخرى تعتقل البندقية، لن يسمح لها بالإفلات، ولن يسمح لرأسه بالانحدار.. يعلو السجع، يحتشد خلف تراب المبنى القديم، يشكل هلاميات تلتحم ببندقيته.. يا للصداع اللعين!
تتعالى أصوات المشردين، يلح رأسه فى الهبوط، يتلفت فلا يرى سوى المدارات السوداء، ونجم ترك موضعه.. الصراخ فى أذنيه صار عويلاً، يمسك رأسه بكلتا يديه.. ذلك السجع الانتهازى يتسلل إلى مقدمة اللعنة، يتَّحد أكثر مع البندقية.. تهتز، يحاول إفلات يديه من تحت رأسه.. يفشل.. يحاول أشد.. فيفشل أكثر. يستطيل عنق البندقية، يزحف خلفه ببطء، يباغته من المقدمة.. يحاول الإمساك به فيعانده رأسه، يتعالى الضجيج، ويلتف العنق على عنقه، تجحظ عيناه، تضطرب رشفة الأمل فى ذاته، يلوح بيديه، ضربات طائشة فى الهواء، ثم يستسلم، يظلم المشهد، ويهدأ الظل.. ويسمع الصوت العصبى مرة أخرى: «اضرب فى المليان»، فيعتصر الزناد!