تحية إجلال لكل من ضحى بروحه فى سبيل هذا الوطن من شهداء الإرهاب. النصر على الإرهاب مؤكد، لكن المعركة طويلة وشاقة. الجرائم الإرهابية الأخيرة فى سيناء وغيرها تشير إلى أن المعركة ضد الإرهاب لم تقترب من نهايتها، والمطلوب هو تقصير مدة المعركة والحد من تكلفتها وعدم السماح للمواجهة مع الإرهاب بأن تشغلنا عن أهداف التنمية الاقتصادية والإصلاح السياسى والاجتماعى، وهى أهداف لا يمكن تحقيقها إلا عبر اصطفاف وطنى يساند المقاتلين على خط المواجهة مع الإرهاب، فيما يقدم الدعم لخطط الإصلاح الاقتصادى والاجتماعى.
الإرهاب فكر وعقيدة سيطرا على عقول ضحاياه، وهؤلاء ليس لهم من علاج سوى الاستئصال. لكن العقيدة الإرهابية لها القدرة على التوسع والانتشار إلى عقول آخرين، وكل إخفاق أو تباطؤ أو شك يصيب الصف الوطنى يقدم ضحايا جدداً لسرطان الإرهاب، والرد على هذا التهديد يكون عبر تعزيز الوحدة والتوافق بين كل مناهضى الإرهاب، وهم الأغلبية الساحقة فى مجتمعنا.
ولكى أزيل الالتباس الذى قد يتسرب إلى أذهان البعض أبادر بالقول إن جماعة الإخوان لا تمثل جزءاً من الحلف المناهض للإرهاب، فالجماعة التى هددتنا بالإرهاب جزاء إخراجهم من الحكم لا يمكن أن تكون جزءاً من الحل، فهى أصل المشكلة.
الإرهاب فكر وعقيدة ينتشران عندما يحدث فراغ فى الفكر والعقيدة، وكل طرف يسهم فى ملء الفراغ الفكرى بقيم وأفكار مناهضة للإرهاب يجب أن يجد له مكاناً فى جبهة وطنية مناهضة للإرهاب.
الإرهاب فى مصر ظاهرة فردية، فنحن لسنا إزاء فئات اجتماعية كبرى تندرج فى صفوف الإرهابيين وقواعد تأييدهم مثلما هو الحال فى العراق وسوريا، فالإرهاب فى بلدنا هو انحراف فردى حتى لو كانت له أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وعلى هذا فإن كل من يستطيع المساهمة فى حماية ولو مواطن واحد من انتشار سرطان العقيدة الإرهابية هو جزء من جبهة مكافحة الإرهاب. أطراف الجبهة الوطنية لمناهضة الإرهاب هى الأحزاب والجماعات السياسية والفكرية والمثقفون المستقلون الذين يؤمنون بمبدأ الدولة الوطنية والعمل السياسى السلمى، والذين يعملون تحت قيادة من الدولة الوطنية المصرية. إنه نفس التحالف الذى استطاع إنهاء حكم الإخوان فى الثلاثين من يونيو، والذى لحق به التفكك بعد ذلك بسبب قصر النظر وقصور الرؤية.
طريقتان فى النظر للأمور وتقييمها ساهمتا فى تفكيك تحالف الثلاثين من يونيو. فمن ناحية هناك الطريقة الكمية فى النظر للأمور، والتى تعتمد أعداد الأعضاء والمناصرين معياراً وحيداً لتقييم وزن الفعالين السياسيين، ولأن بعض أطراف تحالف الثلاثين من يونيو لا تحظى بتأييد شعبى كبير فقد تم تهميش الكثيرين منهم بدعوى خفة الوزن ونقص الشعبية. قد تكون هذه النظرة صحيحة إذا كنا فى مجال السياسات الانتخابية حيث تتحدد قوة كل طرف بما يستطيع حشده من ناخبين مستعدين للتصويت لصالحه، وهى الطريقة المعتمدة فى النظم الديمقراطية حيث الانتخابات هى المعيار الوحيد المحدد لأوزان أطراف المباراة السياسية. غير أن الأوضاع فى مصر ما زالت أبعد ما تكون عن أن تتحدد مصائر البلاد بالانتخابات ونتائجها، فكل التطورات السياسية المهمة فى هذا البلد لما يزيد على نصف القرن حدثت بعيداً عن صناديق الانتخابات، فلا ثورة يوليو أو يناير، ولا حركة السادات التصحيحية أو انتقال السلطة من رئيس لآخر جاءت نتيجة لممارسات انتخابية حقيقية، حتى لو لعبت الانتخابات دوراً مهماً فى إضفاء الشرعية واستيفاء الأوراق.
وفى ظل غياب نظام انتخابى ديمقراطى مستقر فإن مصائر البلاد تتحدد وفقاً لاتجاهات النخب السياسية والعلاقات فيما بينها، وما الخامس والعشرون من يناير سوى لحظة وقفت فيها أغلب جماعات النخبة فى جانب فيما وقف نظام مبارك وحده فى جانب آخر. ومع أن نظام مبارك ظل مهيمناً على الجزء الأكبر من الجماهير العريضة، فإن ذلك لم يكن كافياً لإنقاذه هو ونظامه من مصير بائس.
النظرة الكمية التى تميل إلى تقليل أهمية فئات النخبة وتياراتها تصاحبها وتتكامل معها نظرة أخرى تميل للتعامل مع هذه الفئات كموضوع للتلاعب والتوظيف وليس كشركاء وحلفاء أهل للثقة. وكما قرّب الرئيس السادات أهل اليسار منه عندما أراد الانقلاب على الراديكاليين من بقايا نظام عبدالناصر، وكما فتح السادات الباب للإسلاميين عندما أراد تحجيم اليسار، فإن التفكك السريع لتحالف الثلاثين من يونيو يشير إلى أن النظرة نفسها حكمت الطريقة التى أدار بها بعض أهل السلطة علاقتهم بجماعات النخبة العديدة التى ساهمت فى تشكيل هذا التحالف وإعطائه زخماً وشرعية ما كان ليتمتع بها لولا إسهام هذه الجماعات.
إقصاء جماعات النخبة من شركاء الثلاثين من يونيو خلّف لدى الكثيرين منهم شعوراً بالمرارة يجعله غير قادر على المساهمة فى جبهة وطنية عريضة لمكافحة الإرهاب إلا بعد معالجة المرارة وأسبابها، والمعالجة ليست مستحيلة ولا صعبة. فما يزعج هذه الأطراف هو إحساسها بأن نظامنا السياسى يعود القهقرى إلى ممارسات سابقة على الخامس والعشرين من يناير استفردت بمقتضاها بعض أجهزة الدولة بصنع القرار السياسى، وتلاعبت بمكونات الساحة السياسية بطريقة خفية. أما علامات ذلك فى مرحلة ما بعد الثلاثين من يونيو فلا تخطئها عين، بدءاً من قانون التظاهر المعيب، لقانون الانتخابات المنحاز ضد السياسة لصالح شبكات المصالح المحلية الطيعة، وصولاً إلى مشروع قانون الجمعيات الذى يهدد بمصادرة المجتمع المدنى.
الدولة المصرية هى أهم ما نملك، ليس فقط فى المعركة ضد الإرهاب، وإنما أيضاً فى قيادة هذا البلد نحو النمو والتقدم، ولكن الفارق كبير بين أن تلعب الدولة دور قائد الجبهة وضابط التوازن، وبين أن تخنق المجتمع فتهدر إمكانياته.