أسر ضحايا «الإرشاد»: «ولادنا أسقطوا الإخوان.. والدولة بتضيّع دمهم»
وضعت حرب الإخوان على المصريين أوزارها فى معركة «مكتب الإرشاد» بالمقطم، بسقوطه واحتراقه، لكن أحزان ودموع أسر الشهداء لم تجف، وآلام المصابين لم تخف بعد، بل تزايدت بتجاهل الدولة لهم، وإغفال الحكومة لدورهم فى ثورة 30 يونيو، ومساهمتهم فى جلوس أصحاب المناصب على الكراسى، التى لم يبرحوها للقاء أى منهم، أو تكريم أم شهيد فقدت قرة عينها، أو والد مصاب حمل عناء علاجه كمشقة إضافية لمشقات حياته الصعبة، هكذا تحدث أهالى الشهداء والمصابين لـ«الوطن» التى التقتهم، قبل أيام من جلسة مرافعة الدفاع عن المتهمين من قادة الإخوان فى القضية أمام محكمة الجنايات، لتنقل مطالبهم للرئيس عبدالفتاح السيسى، والمهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء.[FirstQuote]
عبدالرحمن كارم محمد، أول شهيد سقط فى أحداث مكتب الإرشاد، كان يبلغ من العمر 26 سنة، ذهب لينقذ صديقه من الإصابة برصاص الإخوان، فتلقى طلقتين أودتا بحياته على الفور، وخلف وراءه أسرة مكلومة لم تطل أياً من حقوقها حتى اليوم، لا تكريماً كأسرة شهيد، ولا معاشاً يسد الثغرة الحياتية التى كان يغطيها بعمله كسائق ميكروباص يعيل أسرته.
والد «عبدالرحمن»، يسترجع ذكريات استشهاد نجله، قائلاً: «موتوه الإخوان، والدولة بتساعدهم إن دم ولادنا يروح هدر، ما حدش سأل فينا لحد دلوقتى، ولا بشهادة تكريم، الدولة لا تعتبرهم شهداء، مثل شهداء ثورة 25 يناير واللى بيموتوا من ضباط الجيش والشرطة، والقضية اللى بيتحاكم فيها القتلة بتتحرك بالعافية، ويمنعونا من حضور جلسات المحاكمة، ولم نحضر سوى مرة واحدة قلنا فيها شهادتنا، غير كدة بيرمونا على الرصيف لغاية ما الجلسة تخلص».[SecondImage]
أما والدة «عبدالرحمن»، فتجلس فى كشك صغير أمام بيتها تبيع فيه الحلوى، لا تُبدّل ملابسها السوداء حداداً على ابنها الراحل، تسح دموعها بين الحين والآخر، حزناً عليه وعتاباً على الحكومة التى لم تقدم لهم أى تقدير، تقول: «رحت مع أمهات الشهداء عشان نحضر الجلسة وكانت فى البداية فى الشتا اللى فات، رمونا على الرصيف برة فى عز البرد والمطر، وكانوا بيدخلوا أهالى محمد بديع مرشد الإخوان، ومحمد البلتاجى، وصفوت حجازى، وخيرت الشاطر، اللى قتلوا ولادنا، بسياراتهم، بيعدوا علينا، لدرجة إن مرة زوجة خيرت الشاطر وقفت أمامنا وقالت لنا إن زوجها واللى معاه مالهمش دعوة بقتل عيالنا، وإن اللى قتلهم الأطباء، بتقول أى كلام عشان تبرأ نفسها وجوزها، ردينا عليها بكلمة حسبنا الله ونعم الوكيل فى اللى قتلوا عيالنا».
تمسح دموعها وتكمل: «خرجت من الجلسة وخرج بعدها الضباط، وأجبرونا على الابتعاد عن المحكمة، بزعم أننا شتمناها وهى داخلة، وإحنا ولا كلمناها كلمة واحدة، وكان واقف ناس من حقوق الإنسان قريب مننا وشافوا اللى حصل»، وتساءلت: «إزاى نكون إحنا أصحاب الحق ويتعمل فينا كدة ونشوف المعاملة دى؟ واللى قتلوا وحرقوا وخربوا البلد بيتعاملوا أحسن معاملة؟»، وأضافت: «قناة الجزيرة نشرت صورتى أمام المشرحة فى انتظار جثة ابنى، وبثوا صوت سيدة أخرى تقول إن الجيش والشرطة هما اللى قتلوا ولادنا، وأنا ما اتهمتش غير الإخوان، وكل اللى شافوا الفيديو قالوا إن الصوت مش صوتى.. حسبى الله ونعم الوكيل فى اللى بيتاجروا بدم ولادنا».[SecondQuote]
أحمد محمد صابر، كان يبلغ من العمر 22 سنة، أصابته رصاصات الغدر من مكتب الإرشاد أثناء مشاركته فى ثورة 30 يونيو للإطاحة بالإخوان، وترك والديه المسنين بلا مصدر للرزق، بعد نجاح الثورة لم تتحقق أى من آمال أسرته التى باتت بلا أى مصدر للإعاشة بعد وفاة عائلها الوحيد.
والدة أحمد تقول لـ«الوطن»: «ابنى أحمد كان راجل وبيحبنى أنا وأبوه، لدرجة إنه كان ناسى كل حياته وبيشتغل عشان يصرف علينا وعلى نفسه، دفنّاه ودفنّا معاه فرحتنا، وبقينا مش قادرين نعيش، والده يبلغ من العمر 63 سنة، مريض ومالناش أى معاش أو غيره عشان نعرف نصرف على نفسنا وعلى العلاج، وبعد ما نجح السيسى، قالولنا إن ولادنا هينضموا لشهداء الثورة وهيخصصولنا معاش نعيش منه عيشة بكرامة لكن لفينا فى كل حتة ومفيش حد راضى حتى يقابلنا، ولو ما كانش ابنى واللى زيه اتقتلوا، ولا واحد من المسئولين دول كان هيبقى فى مكانه دلوقتى».
يقاطعها والد أحمد قائلاً: «عيب لما البلد تنسى أولادها اللى ضحوا بحياتهم عشانها، إحنا رحنا مجلس الوزراء ووزارة الدفاع حتى صندوق الشهداء والمصابين، ولا حياة لمن تنادى، بيقولوا لنا ما نعرفش عنكم حاجة، والجميع يرفض مساعدتنا أو تكريمنا أو حتى كلمة شكر قصاد دم وحياة شباب زى الورد».
سطوحى محمد السيد، شاب مصرى من محافظات الصعيد، دفعه البحث عن لقمة العيش للسكن فى منطقة المقطم، وتحديداً مساكن الزلزال، وكغيره من أبناء المنطقة سمع عن أحداث عنف واشتباكات فى محيط مكتب الإرشاد، تسارعت دقات قلبه عندما مسح بعينه البيت فلم يجد ابنه «قاسم»، الذى لم يكن قد أكمل عامه الرابع عشر، لم يستبعد «سطوحى» أن يكون نجله ذهب ليشاهد ماذا يحدث أمام مقر الإخوان الذى لا يبعد كثيراً عن مقر إقامته، ونزل مسرعاً إلى مكان الأحداث، ليشاهد البعض يلتف حول جثمان نجله الذى تلقى 3 رصاصات من سلاح آلى فى الرقبة والجانب الأيسر، أودت بحياته فى الحال.
قال «سطوحى» وهو يحمل صورة نجله التى وضعها فى برواز ووضعها أمامه فى غرفته: «ذنبه إيه ابنى ياخد 3 رصاصات فى جسمه الصغير، كان رايح يتفرج ما يعرفش حاجة لسه فى الدنيا، ولما سمع ضرب النار حاول يستخبى، لكن رصاص الإخوان من المبنى ماكانش بيفرق بين عيال ورجالة وستات»، وتابع: «أنا عاوز حق ابنى من اللى قتلوه، عاوزهم يتعدموا فى ميدان عام عشان يعرفوا إن الله حق، وإن اللى بيقتل بيتقتل، وكمان عاوز من الدولة إنها تبص لنا بعين الاحترام، لأن الحكومة رافضة أصلاً تسمعلنا أو تحس بينا، كل المسئولين بيتهربوا مننا، ومافيش أمل لينا غير الرئيس السيسى اللى بيقف جنب المظلومين، وإحنا عارفين إنه ما يعرفش موضوعنا وعشان كدة بنطالب إنه يقابلنا ويسمع طلباتنا بحق دم أولادنا اللى راحوا».[ThirdImage]
محمود محمد السنارى، الرجل المُسنّ، الذى لقبه أبناء المنطقة بـ«أبوالشهداء»، لا يدخر جهداً فى البحث عن حق ابنه، يذهب للجلسات رغم معرفته بعدم السماح له بالدخول، ويطرق أبواب المسئولين بحثاً عن تكريم ابنه الأكبر، حتى مطالبته بنقل الكشك الخاص به من شارع جانبى إلى الشارع الذى سقط به ابنه، لم يتلق من محافظ القاهرة سوى «تأشيرة وهمية» -على حد تعبيره- بالمقابلة.
محمود يقول: «أنا مش بطلب من الدولة إنها تعملى جنازة عسكرية ولا بطلب ملايين، أنا على قد حالى، وأم عبدالله أصابتها أمراض الكلى والكبد والسكر والضغط دفعة واحدة، بعد ما مات العيال التلاتة اللى كنا بنتعكز عليهم فى الدنيا، ولما مرة خدتها ورحت بيها المستشفى عشان تتعالج وقلت للدكتور أنا والد الشهداء رد عليا بكلمة إحنا منعرفكوش، والمحافظ يرفض لقاءنا، وكأننا مش مصريين وقدمنا ولادنا فداء للبلد».
ويروى «محمود» قصة مساومة الإخوان له: «كنت فى مرة قاعد قدام البيت وجالى 4 من الإخوان فى عربية جيب سوداء وقالولى إنت السنارى، قلت أيوة، فطلبوا منى أتنازل عن القضية ضد بتوع الإخوان مقابل إنهم يدونى كرتونة فلوس، قلت لهم أفكر، وبلغت رئيس المباحث، وبعدها ما ظهروش تانى لما عرفوا إنى رحت القسم، وأنا لو كنت عاوز أغتنى كنت سمعت كلامهم، لكن أنا عاوز حق ابنى من البلد، ومش هاخد دية ابنى من الإخوان».
لم يكن يعلم محمد هاشم محمد، الذى يبلغ من العمر 57 سنة، أن الأمر سيتطور سريعاً لهجوم بالرصاص من أعضاء الإخوان القابعين خلف نوافذ مقرهم، حمل علم مصر فى يده وتوجه للاحتفال بسقوط الإخوان، وقف بالقرب من ميدان النافورة، وما إن اقترب من مقر مكتب الإرشاد بعد مشاهدة هرولة الناس ناحيته، وعمليات الكر والفر التى بدأت بين المتظاهرين والمحتمين بالمبنى، حتى أصابه الخرطوش فى عينه اليمنى، فغادر للمستشفى، قال لـ«الوطن»: «القضية بتاعتنا طولت، وماحدش مننا خد أى حق ولا باطل، أنا رحت بنفسى الجلسة اللى طلبونى فيها، ووقفت قدام القاضى عشان أشهد فى القضية، ولما قلت له إنى بتهم مرسى وبديع والشاطر وكل قيادات الإخوان، رد على بديع: لو عندك حاجة تانية هاتها.. أنا واخد 3 إعدام وكام حكم سجن.. جت عليك يعنى، فقلت له إنتو قتلتوا وأصبتوا الناس ولما مسكتوا البلد خليتوا الناس تبيع هدومها حرام عليكو، ومحامى الإخوان قال لى أمام القاضى: إنت إيه اللى وداك هناك؟، فرديت عليه: إحنا كنا فى ثورة وكنا رايحين بأعلام مصر مش بأسلحة زى الإخوان».
وأكد «محمد» عدم اهتمام الدولة به أو بأى من المصابين ولا أسر الشهداء لتكريمهم كما حدث مع من سبقوهم فى أحداث يناير، وأنه لم يتخيل أن يتم تجاهلهم بهذه الطريقة خاصة مع ثقتهم الكاملة فى الرئيس عبدالفتاح السيسى، وأنه إذا وصل له صوتهم سيقابلهم ويحقق أمنياتهم فى حياة كريمة وتقدير يستحقونه.
فى نهاية حديثهم لـ«الوطن»، قال أهالى الشهداء والمصابين إنهم يطالبون الرئيس عبدالفتاح السيسى، ورئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب، بالالتفات لهم، وإن كل المسئولين بالدولة لا يعيرونهم أى اهتمام، على الرغم من أنهم يستحقون تكريم الدولة لهم على دور أبنائهم فى ثورة 30 يونيو التى أطاحت بالإخوان من حكم مصر، وأن تلك الثورة بدأت من المقطم، حيث راح فى أحداث الإرشاد 6 شهداء من المقطم فقط، وآخر من بنى سويف وآخر من منطقة السيدة عائشة، وأكدوا أن الرئيس السيسى لو علم قدر المعاناة التى يقابلونها فى أى مصلحة حكومية عند المطالبة بأى حق لهم، سيتحرك لإعطائهم تلك الحقوق لأنه يقدر دور الشهداء والمصابين وما قدموه من أرواحهم ودمائهم من أجل الوطن.