«الوطن» تواصل تحليل الأداء الحكومي بقطاع الاتصالات بعد ثورة يناير «3»
منذ 25 يناير 2011 وحتى الآن، لم يكن الأداء الحكومى بقطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات يمضى على وتيرة واحدة من حيث التوازن بين عقلية «التسيير» القائمة على تخليص البوسطة، وعقلية «التفكير» القائمة على وضع الخطط وتنفيذ الرؤى؛ فقد شهد هذا الأمر اختلافاً من فترة لأخرى ومن وزير لآخر، وبدأ من سيطرة تامة لعقلية «البوسطة» خلال الفترة التالية للأحداث، وانتهى خلال الأشهر الستة الأخيرة إلى ما يمكن وصفه ببداية تراجع عقلية البوسطة، والعودة البطيئة المتواضعة نوعاً ما لعقلية «التفكير». [FirstQuote]
قبل عرض ما كشف عنه التحليل «الإحصائى» لتطور هذه الظاهرة فى أداء الوزارة، لا بد من الإشارة إلى أن البيئة السياسية والمجتمعية العامة لعبت دوراً حيوياً ومؤثراً فى الضغط على الوزراء الخمسة الذين تبوأوا المنصب خلال فترة التحليل التى تغطى من 1 يناير 2011 وحتى 23 سبتمبر 2014، ومن ثم فالمسئولية عن الوقوع فى براثن عقلية «البوسطة» لم تكن مسئولية الوزير شاغل المنصب كاملة، بل كان من بين أسبابها التقلبات والتوترات القائمة بالبلاد.
لكن هذه الحقيقة لا تنفى بالطبع أن شخصية الوزير وتوجهاته وقناعاته ومهاراته فى التعامل مع الموقف ومع الأطراف الأخرى بالدولة وداخل سلطة الحكم، كان لها أيضاً دور وتأثير لا يمكن التغاضى عنهما، وهو بالضبط ما تم تتبعه ومحاولة قياسه وعرضه من خلال هذا التحليل.
كشف التحليل عن أن فترة الـ53 يوماً الأخيرة للدكتور طارق كامل فى الوزارة لم تشهد أى أنشطة أو بيانات أو شيئاً يدل على أن الوزير كان من بين اهتماماته الحديث عن التخطيط والرؤى طويلة الأجل، وهنا لا بد من القول: إن أيام طارق كامل الأخيرة لها خصوصيتها فى هذا السياق، أولاً: أنها كانت أياماً عصيبة وشهدت ذروة الأحداث ولم يكن هناك متسع لدى أى مسئول للتفكير فى قطاعه أو وزارته على هذا النحو، وثانياً: لأن طارق كامل كان لديه خطط ورؤى سابقة قيد التنفيذ بالفعل.
طرأ تغير طفيف للغاية، وربما غير محسوس، خلال فترة الـ148 يوماً التى قضاها الدكتور ماجد عثمان فى الوزارة باعتباره أول وزير بعد أحداث يناير؛ حيث تبين أن الوزير خصص 1% من نشاطه لما يمكن اعتباره تفكيراً وتخطيطاً وليس تسييراً للأعمال. وخلال الـ378 يوماً التالية التى شغلها الدكتور محمد سالم، لوحظ حدوث مزيد من التقدم الطفيف فى الأنشطة المخصصة للتفكير والتخطيط؛ فقد ارتفع النشاط المخصص لهذا الأمر إلى 2%، ثم حدث تراجع خلال الـ157 يوماً التى تولاها المهندس هانى محمود، ووصل النشاط المخصص لهذا الأمر إلى الصفر، وهو أمر يتحمل المهندس هانى محمود مسئوليته بدرجة أكبر من سابقيه؛ لأنه تولى الوزارة فى بداية حكم الإخوان، وبعد إقرار دستور 2012 وانتخاب محمد مرسى، أى أن الأمور كانت تقتضى، إن لم تكن تحتم، طرح رؤية مستقبلية جديدة، وبمجىء الوزير الحالى المهندس عاطف حلمى، تحسن الوضع عن الفترات الأربع السابقة عليه، فخلال الـ625 يوماً التى قضاها بالمنصب حتى 23 سبتمبر 2014، خصص «حلمى» 3٫2% من نشاطه لقضية التفكير ووضع الأهداف والخطط المستقبلية.
إذا ما تخطينا مسألة «الكم» فى النشاط المخصص للتفكير، وانتقلنا إلى «الكيف والنوع»، سنجد أن الأمر لدى الوزراء الثلاثة الذين اهتموا بالتفكير كان على النحو التالى:
- الدكتور ماجد عثمان حاول التفكير والتخطيط لقضية واحدة هى نشر وتفعيل الإنترنت فائق السرعة.
- الدكتور محمد سالم قام بالتفكير فى وضع استراتيجية جديدة للتعامل مع أفريقيا ودول حوض النيل فى مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، كما وضع استراتيجية للقطاع لتنفيذها خلال الأشهر الستة التالية لتوليه الوزارة، وخصص جزءاً من نشاطه لوضع استراتيجية التنمية المعلوماتية الخضراء المتوافقة مع البيئة خلال الفترة من 2012 إلى 2015، ثم قام بالتفكير فى استراتيجية قومية للقطاع ككل تغطى الفترة من 2012 إلى 2017، كما خصص جزءاً من نشاطه لاستكمال قضية الإنترنت فائق السرعة.
- المهندس عاطف حلمى ضاعف النشاط المخصص لاستراتيجية القطاع العامة 2013-2017 ثلاثة أضعاف مقارنة بالدكتور محمد سالم، ومنح جزءاً من نشاطه لاستراتيجية تطوير البريد، ثم خصص جزءاً لقضية الإنترنت فائق السرعة يعادل ثلاثة أضعاف ما خصصه الدكتور ماجد عثمان، وانفرد عن سابقيه فى نطاق الفترة الزمنية للتحليل بالتفكير فى استراتيجية قومية مستقلة للإلكترونيات، واستراتيجية خاصة بالبرمجيات مفتوحة المصدر، وخطة لوضع التوجه نحو الرخصة الموحدة موضع التنفيذ الفعلى.
فى ضوء التصنيف الموضوعى والخط الزمنى وحجم النشاط المخصص للقضايا «محل التفكير» من قِبل الوزراء الثلاثة، يمكن القول: إن المهندس عاطف حلمى قد أعاد مسألة التفكير إلى جدول أعمال الوزارة، لكنها عودة تتسم بالبطء والحسم النهائى للقضايا محل الاهتمام، وتحويلها إلى البرامج التنفيذية على الأرض، وأبرز مثال على ذلك: قضيتا الرخصة الموحدة والبرمجيات مفتوحة المصدر، فكلتاهما تعترضها مصاعب جمة، فى مقدمتها صراع المصالح و«حرب تكسير العظام» بين الأطراف المختلفة ذات العلاقة.
كما اتسمت العودة للتفكير أيضاً بتواضع الأفق التنموى؛ فعلى الرغم مما صاحبها من جهد فإننا لا نزال نواجه الكثير من الأسئلة التى طرحتها شخصياً على أحمد نظيف وطارق كامل عامى 2006 ونهاية 2009، وهى: هل نريد صناعة خدمات أم صناعة تقدم منتجات؟ وهل نستهدف السوق الداخلية وننفذ سياسة الإحلال محل الواردات أم التصدير للإقليم الذى نعيش فيه أم نخرج للسوق العالمية؟ وفى البرمجيات مثلاً لم نحدد: هل نريد صناعة تركز على المحتوى أم النظم المدمجة أم البرمجيات التجارية؟.. وغيرها.
إن رصد حالة البطء والتواضع لا يعنى الإقلال من أهمية ما تحقق من العودة إلى التفكير، ولكنه إشارة إلى أن الوزير والوزارة والقطاع ككل لا يزال بصدد أسئلة صعبة، تتطلب أن يكون التحرر من داء «البوسطة» والعودة لفضيلة التفكير أكثر سرعة وأوسع نطاقاً، بما يوفر مدخلاً جيداً وناجحاً للتعامل مع هذه الأسئلة والانطلاق مجدداً، وتعويض ما خسرناه خلال السنوات الماضية.