سيأتى يوم يتوقَّف فيه المؤرخون مذهولين أمام هذا التدنى الرهيب فى مطالب المصريين من التعليم. منذ أسبوعين فقط كنا نكتب ونتحدث ونتفق ونختلف حول انهيار منظومة التعليم، وكنا نطالب بحلول من قبيل تفكيك منظومة الدروس الخصوصية وتطوير المناهج وتخليصها من الحشو الغبى وإحكام الرقابة على المدارس الخاصة التى تقدم خدمة تعليمية منحطة بأسعار فاحشة، وتحسين أجور المدرسين، وإرغام المدارس الخاصة على تعيين مدرسيها والتأمين عليهم، ومنذ أسبوعين تلاشت كل هذه المطالب فجأة، وتدنت مطالبنا من التعليم إلى مجرد التضرع إلى الله، سبحانه وتعالى، أن يصل أطفالنا إلى مدارسهم سالمين، وأن يحميهم من شر الإصابة الخطرة أو الموت بداخلها، وأن يرعاهم حتى يعودوا إلى البيوت.
قبل أسبوعين، كانت الأسر تنتظر نتيجة اختبارات امتحانات أبنائهم التى تفننت المدارس الخاصة تحديداً فى الإفراط فيها، فأصبح هناك امتحان نهاية الشهر وامتحان ربع التيرم ونصف التيرم ونهاية التيرم، وكنا نعرف أن هذا الإفراط فى الامتحانات لا مبرر له غير الأرباح الإضافية التى تجنيها المدارس الخاصة من بيع «الشيتات»، وفجأة تبخرت من رؤوسنا كل هذه العذابات، ونحن نرى ونتابع فواجع أسر مثلنا تنتظر أمام معامل وزارة الصحة نتيجة اختبار الـ«DNA»، للتعرف على بقايا جثث أبنائهم المعجونة على الأرصفة أو المتفحمة داخل باصات المدارس، أو نتابع مع أسر أخرى عذابات البحث عن علاج لفتاة صغيرة فقدت عينها فى المدرسة، أو طفل صدمه باص المدرسة (وهو حادث يتكرر يومياً)، أو آخرين سقطوا على سلالم المدارس وأصيبوا إصابات خطيرة بعضها يصل إلى ارتجاج فى المخ وكسر فى الجمجمة.
كنا قبل أسبوعين ننتظر من وزارة التربية والتعليم أن تلزم أصحاب المدارس الخاصة بتعيين سائقين أسوياء ومؤدبين لقيادة الباصات، بدلاً من الاعتماد على شركات تستأجر سائقى الميكروباص والتوك توك، فإذا بنا فجأة نتنازل عن هذه المطالب، ونتمنى فقط أن تكتفى الوزارة أو المدرسة بإجراء اختبارات الكشف عن المخدرات فى دماء السائقين، ويتضح لنا أن غالبية سائقى باصات المدارس يتعاطون البانجو والترامادول والحشيش وحبوب الصراصير، وأن هذه المواد المخدرة تصيبهم بالبلادة والاستهانة الإجرامية بالمخاطر، واستخدام أحط وأقذر الألفاظ فى الحديث داخل الباص.
كنا قبل أسبوعين نتناقش فى أهمية اختفاء الإشارات والأحاديث السياسية داخل المدارس، فإذا بنا فجأة ننسى كل هذا وننخرط فى ملاحقة وإحصاء حوادث القتل والإصابة الخطرة داخل المدارس وخارجها، وكنا نتمنى أن تصبح الحمامات ودورات المياه نظيفة، فإذا بنا ننسى هذا المطلب الإنسانى البسيط ونرجو من الله أن نتعرف بسرعة على جثث أبنائنا وأن نسارع بمنحهم كرامة الدفن عندما يموتون دهساً أو حرقاً فى الطريق إلى المدارس أو الجامعات، وألا يُكتب على أحد منا فجيعة انتظار نتيجة تحليل الـ«DNA»، أو فجيعة رؤية بقايا الجثث المختلطة وقد ألقاها عامل مشرحة فى صندوق القمامة!
قبل أيام كنت أعنّف أولادى إذا تغيبوا دون عذر حقيقى عن المدرسة، فإذا بى صباح الخميس الماضى أجدهم نائمين فى أسرَّتهم بعد التاسعة صباحاً، فأفرح جداً وأحمد الله أن منحنى يوماً لن أعانى فيه عذاب انتظار رجوعهم سالمين من هذه الرحلة الخطرة، والمدهش أننى اكتشفت الارتياح ذاته داخل كثيرين أعرفهم، لم يعد أحد منهم يبدى أدنى اهتمام بغياب أبنائه عن مدارسهم.
والحال كذلك.. سألت نفسى: ما الذى يمكن أن يفعله وزير التربية والتعليم الحالى، أو اللاحق، لوقف هذه الفواجع الرهيبة؟
وبعد تفكير طويل انتهيت إلى أن الوزير -أى وزير- ليس بإمكانه أن يفعل شيئاً على الإطلاق؛ لأن الحل فى حاجة إلى ثورة جذرية تقتلع كل أسباب الخراب من جذورها الضاربة فى عمق التربة المصرية.. فكبار المسئولين عن التعليم الأساسى فى مصر هم سبب خرابه وتدميره؛ فهم أصحاب مراكز الدروس الخصوصية، وهم مؤلفو كتب سوق التعليم الموازى، وهم أصحاب المدارس الخاصة بالشراكة مع رجال الأعمال.. وهذا الفساد المركب فى حاجة إلى شلال ثورى يقود كل هؤلاء إلى السجون ومصادرة أموالهم.. حتى نعثر على تربة ممهدة تنبت فيها أى أفكار لإصلاح منظومة التعليم.