تشير التجارب الدولية إلى أنه لا يوجد تقدم بدون استقرار، كما أن التقدم لا يتم إلا فى إطار تنمية شاملة ومستدامة، والتقدم بمعنى الارتقاء يشير إلى الانتقال من حالة ووضع متدنٍ إلى مرتبة أعلى وأرقى وأكثر جودة، ولقد حاول علماء التنمية والتحديث فى القرن الماضى البحث فى شروط التقدم ومراحله وحددوا للدول خمس مراحل؛ مرحلة المجتمع البدائى، مرحلة الإقطاع، مرحلة التصنيع - النضج، مرحلة الاستهلاك الجماهيرى، ومرحلة ما بعد الاستهلاك الجماهيرى، وهى المرحلة التى تعيشها بعض الدول المتقدمة، مثل الولايات المتحدة، وتتحدد شروط الانتقال من مرحلة إلى أخرى فى مستوى معين من الاستقرار، أى وجود علاقات محددة وواضحة بين مختلف أطراف المجتمع والتحول من الشخصنة إلى المؤسسية، ووضوح العلاقات بينها من حيث الوظائف التى تؤديها ودرجة المساءلة التى تقوم عليها، وتمتد كذلك إلى تحقيق معدلات من التنمية الاقتصادية يطلق عليها الاقتصاديون «النمو»، لكى تشير إلى قيام المجتمع بالإنتاج والاستخراج والتوزيع والحماية، والحقيقة أن الانتقال بين تلك المراحل ليس أمراً ميسراً، ولكنه محفوف بالمخاطر، وقد يتسم بالعنف، لأن كل مرحلة تالية تعنى تهديد المصالح الثابتة Vested Interest للقوى الفاعلة فى المراحل السابقة، بيد أن عملية الانتقال هذه حتمية ولا يمكن منعها أو تجاوزها، وإن كان من الممكن إبطاؤها، وتتوافق مع تلك المراحل التطورات السياسية، والتى تعنى الانتقال من النظم العبودية فى المرحلة الأولى إلى النظم الديمقراطية فى المرحلة الرابعة والليبرالية فى المرحلة الخامسة، ولكى يتحقق التقدم، لا بد من تزامن مراحل النمو الاقتصادى مع مراحل النمو السياسى.
وتتمثل المشكلة فى الدول النامية أنها تعرضت للاحتلال والاستنزاف ولم تتمتع بأية حرية فى اتخاذ قرارات تنموية، كما أن درجة الاستقرار بها حددتها قوى خارجية كانت حريصة على استمرار مظاهر عدم الاستقرار ناهيك عن الشقاق والعنف، بيد أن تحول تلك الدول، خصوصاً الدول الإقليمية المركزية مثل مصر، من التخلف إلى التقدم يتطلب التزامها بتحقيق الاستقرار السياسى من ناحية، والتنمية الاقتصادية من ناحية أخرى، ويتمثل جوهر الاستقرار السياسى؛ أولاً فى بناء مؤسسات فاعلة ومسئولة تأتى على رأسها السلطات الثلاث الرئيسية التشريعية والتنفيذية والقضائية، ثم مؤسسات الرقابة المالية والدستورية، وكذلك مؤسسات متابعة معايير الشفافية والإفصاح، يضاف إليها الأحزاب وجماعات الضغط والمصالح، والتى توازنها مؤسسات المجتمع المدنى، ويقام الاستقرار كذلك على مبدأ المشاركة المستدامة للمواطنين الذين يعلون المصلحة العامة على المصالح الذاتية أو الوقتية كما يقوم الاستقرار عند توافر مبدأ المحاسبة Accountability؛ سواء السياسية أو الشعبية فى إطار الدستور والقانون، أما التنمية؛ فأساسها العودة إلى الوظائف الأولية للنظم السياسية؛ الاستخراج - الإنتاج، والتوزيع، أى العدالة الاجتماعية، والأمن القومى، أى الحماية من مصادر التهديد، والوظيفة التكنولوچية أى توظيف العلم الحديث بقصد التحول إلى مراحل التقدم الأعلى؛ فالتنمية إذن لا تقتصر على معدل النمو الذى قد يكون انعكاساً كاذباً للظلم الاجتماعى الذى يفجر الغضب وعدم الرضا ومن ثم عدم الاستقرار.
وفى مصر، وفى محاولة إعادة بناء الدور الإقليمى المركزى وبناء الدولة العصرية وتحقيق انطلاقة بالقفز إلى المستقبل تتكامل أسس الاستقرار مع متطلبات التنمية، فقد تم إصدار الدستور، وأقيمت الانتخابات الرئاسية وبقيت الانتخابات البرلمانية، ويستلزم الانتقال إلى الاستقرار السياسى اجتثاث واستئصال عناصر الإرهاب الداخلية المتداخلة مع العناصر الخارجية؛ فدول الجوار؛ إسرائيل وتركيا وإيران، والدول الكبرى، مثل أعضاء حلف الناتو يستكثرون على مصر الاستقرار والانتقال إلى التنمية ومن ثم تحقيق التقدم، وتتكاتف جهودهم فى الحث على الإرهاب الداخلى وتوظيف الإعلام الدولى لتكريس صورة عدم الاستقرار توطئةً للحد من الاستثمار الأجنبى المباشر ووقف عودة وازدهار السياحة فى أهم نقطة سياحية فى العالم، ويترتب على كل ذلك إجهاد الدولة المصرية والحد من قدرتها على أداء وظائفها الاستخراجية - الإنتاجية والتوزيعية والتكنولوچية والأمنية.
ولا شك أن تلك التهديدات الموجهة للأمن القومى المصرى تستلزم الإجماع الوطنى الكامل حول حتمية الانتقال من التراجع الذى عانيناه إلى التقدم الذى نبغيه، ويتطلب ذلك الإعلاء من المصلحة المصرية العليا والإيثار وقيم الولاء والانتماء، على أنه ينبغى أن تعطى أولوية لبناء مؤسسات فاعلة وقادر على أداء الوظائف الموكولة لها من الدستور والقانون، ووضع خطط وبرامج ومهام محددة للمسئولين فى هذه المؤسسات، على أن يتم خضوعهم للمساءلة الشعبية/ البرلمانية والسياسية، ولتكن لنا دروس من التجربة اليابانية والألمانية بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث انتقلتا من الدمار وعدم الاستقرار إلى قيادة العالم اقتصادياً وسياسياً، ومن تجربة ماليزيا وإندونيسيا، وهى مجتمعات غير متجانسة عكس مصر التى أفاء الله عليها بمجتمع متجانس متكامل لا يحتاج إلا التعبئة من أجل المستقبل.