هل كتبت علينا الأقدار أن يحاكمنا حكامنا فى شبابهم ونحاكمهم فى عجزهم بلا نصير ولا معين، أن نبنى ما هدمناه فى الأمس ثم نقف على أطلاله فى الغد، أن نقدس الفرعون فى شبابه ثم نكفّره فى شيخوخته ونخسف به وبداره الأرض، أن نعلق صورته على صدورنا نتغنى بها فى طابور الصباح ثم نطأها بأقدامنا فى طابور المساء، أن نغازل مفاتنه وعبقريته وبطولاته ثم ننقلب عليه كالدهر وتصبح مفاتنه قبحاً، وعبقريته غباء، وبطولاته هزيمة وانكساراً؟! ألم يكن مبارك ملء السمع والبصر والفؤاد؟ هل كان سمع الطرشان، وبصر العميان، وفؤاد الضلال والبهتان؟ ألم يكن مبارك صناعة نفاقنا وكذبنا وخداعنا؟ ألم نقف فى طابور المنح والعطايا نطلب القرب من صاحب الوصال فاستخف بعقولنا؟ (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوه). يا سادة، لا يقدم مبارك للمحاكمة وحيداً، بل يقدم معه للمحاكمة كل من ضلله، ونافقه، وفرش له بساط الرضا، وأزاح عن وجهه أنّات المقهورين والمطحونين، يقدم معه للمحاكمة من صوّر له القبح جمالاً، وأخفى عن عينيه سرادقات العزاء، من بدّل أمام عينيه أبيات الهجاء إلى أبيات مديح وثناء. من صوّر له صمت الشعب رضا وقناعة. يحاكم معه كل من اقترب منه وأبعدنا عنه، من حاصره وروّعه من شعبه، وأخافه منا فأخافنا بسوطه وسلطانه، يحاكم معه كل من أوكلنا لهم المحاسبة والمراقبة والتشريع والاستجواب وسحب الثقة فأعمى الضلال أعينهم، وتفرغوا لجنى ثمار الرشاوى وشراء الذمم، وتركوا من أفسد ومن سرق ومن نهب دون حسيب أو رقيب. حاكموا معه وزراء التوجيهات السامية الذين سلموا عقولهم وتاريخهم إلى بطانة الجهلاء والمفسدين.
مبارك، أيها الغاضبون، بضاعتنا رُدت إلينا أوان بوارها، ولقمة عيش قدموها لإطعامنا بعد فسادها، وترياق لمريض مات بسم من يطببه. مبارك فوضى شعب، وغباء أمة، ونفاق رعية، وقصائد شعر كتبها شعراء الجهالة على صفحة الريح الغادى دون عودة. مبارك كتاب عجزنا عن طىّ صفحاته فمللنا قراءته ثلاثين عاماً. مبارك تاريخ نكتبه ونزيفه بأيدينا، ليحكيه أولادنا وأحفادنا قصصاً عن حماقة وخبل آبائهم وأجدادهم.
براءة مبارك دليل اتهامنا وفسادنا وسذاجتنا وعجز حيلتنا وهواننا على أنفسنا. نحن أورثناه ملكنا، وأجلسناه فرعوناً على أعناقنا مهللين مرحبين. الفراعنة يا سادة صناعة أجدادنا من آلاف السنين ورثناها كابراً عن كابر، نزرعهم حنظلاً ونحصدهم مراً، نجترهم من أمعائنا فى وقت لا زرع فيه ولا حصاد. نحن نحصد ما تزرعه أيدينا، ونلبس رداء من صناعتنا، نسمع منه نكتة حمقاء تضحكنا، وإذا سمعنا بكاء الجوعى ليس يبكينا. القاضى حكم لمبارك بالبراءة، وأدان المجتمع بالجهالة، يا أيها القاضى الجليل، حاكم المجتمع بتهمة الغباء السياسى، حاصر الوطن بسور شائك، احبس شعبك حبساً احتياطياً ولا تطلق سراحه حتى يبرأ من هذا الداء، ويتخلص دمه من عدوى تأليه حكامه.
يا سيدى، نحن نزيف لحكامنا ونُلبسهم عمامة الفقهاء فإذا أفتوا ضلّوا، ونُلبسهم لحية الأتقياء فإذا اتقوا أضلّوا، ونُلبسهم حكمة الحكماء فإذا حكموا ضُللوا. نحن يا سادة الواقفون على باب المعز، ينزع منا بذهبه ما لا ينزعه بسيفه، فلمَ البكاء واللوم والندم ونحن من باع ومن اشترى ومن أمات ومن أحيا؟!
أيها الغاضبون، نحن نستحق ثورتكم، نحن المقصرون فى حقكم، فلا تقصروا فى حق أبنائكم، نحن الذين قاطعنا وخاصمنا، فلا تقاطعوا ولا تخاصموا، نحن الذين لم نشارك ولم نساهم، فشاركوا وساهموا، نحن الذين دفعنا بالمرتشين والفسدة والمنتفعين إلى الصدارة والتشريع فلا تدفعوا، ما دفعنا.
نحن جيل الحاجة، بحثنا عن راحتكم فى تعبنا، وعزتكم فى ذلنا، ومجدكم فى هواننا. نحن جيل خرج من رحم الهزيمة إلى ساحات القهر والظلم. حاولنا ما وسعت لنا الحيلة من متسع، وما ضاقت بنا السبل من ضيق، وما أعطى لنا حكامنا من ذهبهم وما اغتصبوه منا بسيوفهم، كان شاغلنا أنتم، وهاجسنا نجاحكم وتفوقكم. كنا نحسب أننا نحسن لكم صنعاً، وما كنا ندرى أن البضاعة الفاسدة لصانعها والحفرة لمن حفرها، ولم نعرف أن الخلاف يُفسد بين الآباء وأبنائهم كل القضايا، ويغلق كل الأبواب والسبل. رفقاً بنا، نحن الذين أخطأنا، وخير الخطائين التوابون.
اللهم سلّم الوطن من كل سوء، واهد أبناءنا وأبناءكم، واجعل مبارك تاريخاً نطوى صفحات كتابه، واهدنا يا رب أن نفتح كتاباً آخر. اللهم آمين.