فى أوروبا ثمن السيارة الجيدة يعادل راتب أربعة أشهر لموظف فى وظيفة معقولة، إلا أن شراء السيارة فى أوروبا رفاهية لا يقدر عليها ولا يحبها إلا القليل، ففى كثير من الدول حتى الوزراء يركبون المواصلات العامة، رغم الثمن الزهيد نسبياً للسيارة، وهذا ليس تعففاً أو بخلاً، وإنما ناتج لأمرين؛ الأول أن المواصلات العامة جيدة وآدمية وتحترم المواطنين من حيث الجودة فى المركبات أو الدقة فى المواعيد، الأمر الثانى أن ثمن السيارة لا يكاد أن يقارن بقيمة ركن السيارة فى المكان المخصص للركن أو غرامة الركن فى غير المكان المخصص، ومن ثم، وإن كان الجميع يستطيع شراء السيارة، فإن الجميع قد لا يستطيع تحمل تكلفة إنفاذ القانون.
أما فى مصر ونحن نعانى من الطرق المهترئة وغير الآدمية وصعوبة إيجاد أماكن للركن، فإن شراء السيارات أصبح كالماء والهواء وبالتأكيد لا نستطيع لوم من يقتر على نفسه لشراء سيارة نتيجة غياب المواصلات العامة الآدمية من الأساس، والتى يعد استخدامها مغامرة كبرى وعملاً بطولياً لا يقدم عليه إلا المضطر.
فى هذه العشوائية المذهلة من تدفق سيارات دون حسابات للطرق أو تلوث البيئة وغياب المواصلات العامة، تركت الشوارع فى مصر نهباً لمجموعات منظمة، بعضها أقرب للعصابات تستحل كل شبر فى أرض الوطن، وتستنزف المواطنين فى أفعال أقرب إلى سرقة المصريين بالإكراه على مرأى ومسمع من الجميع، تدعى أنها تساعد أصحاب السيارات فى ركن سياراتهم حتى أمام علامات ممنوع الركن، وتكره سائق السيارة على دفع الإتاوة مقدماً حتى ما إن تحضر شرطة المرور تفر هاربة تاركة السيارة وصاحبها لقدرهما.
عملية استنزاف غير مقبولة لأصحاب السيارات ولشرطة المرور فى نفس الوقت، واحتلال كافة الشوارع دون أن تستفيد منها الدولة، لا هى نظمت وخططت مصالح أصحاب السيارات وحقوق المارة واستفادت من العوائد لخدمة الدولة، ولا منعت تماماً هذه العشوائية، بل وصل الأمر إلى أن إتاوة الركن فى بعض شوارع القاهرة والجيزة وصلت إلى عشرة جنيهات فى الساعة!
على سبيل المثال الشوارع المحيطة بدار المعارف على كورنيش النيل والمجاورة لعدد من الفنادق الكبرى، يطلب السايس لمن يركن السيارة ملاصقاً لسور دار المعارف عشرة جنيهات فى الساعة، استرعى فضولى فقمت بحساب عدد السيارات التى قد يستوعبها المكان، يصل إلى مائتين وخمسين سيارة فى متوسط اثنتى عشرة ساعة هى ساعات الاحتياج، ليصل إلى ثلاثين ألف جنيه يومياً يحصلها هذا السايس الذى لا ينتمى إلى أى جهة رسمية.
ثلاثون ألف جنيه القيمة اليومية لسور دار المعارف فقط ودار المعارف نفسها تئن من وطأة فقر الموارد وعدم القدرة على العمل ونشر الثقافة، مبلغ كفيل بأن يسهم بصورة كبيرة فى نشر الثقافة لو تم تحصيله لصالح الدار، وهذا نموذج واحد على آلاف الشوارع المحتلة فى بلد يشكو من قلة الموارد، لكنه فى الحقيقة يعانى من فقر النظر وانعدام التخطيط، فهذه الشوارع المتروكة نهباً إذا تم تخطيطها لصالح المحليات سوف تدر الملايين وربما المليارات التى تسهم فى تحسين المواصلات العامة وتقليل الضغط على الشوارع واحترام آدمية المصريين، أيضاً يمكن تحصيل نسبة لصالح الشرطة لتحسين إمكانيات شرطة المرور ورفع قدراتهم على إنفاذ القانون، ويمكن أيضاً تنظيم الجادين من العاملين كسياس مع رواتب محترمة تساعدهم على الحياة الكريمة دون تثبيت أصحاب السيارات.