صلاح جاهين.. رجل كل الفنون يتمرد على "ناصر"
إنسان .. أيا إنسان ما أجهلك
ما أتفهك في الكون وما أضألك
شمس وقمر وسدوم وملايين نجوم
وفاكرها يا موهوم مخلوقة لك؟
عجبي..
لم يكن "صلاح جاهين" فقط رسامًا موهوبًا يستخدم قلمه لرسم فن الكاريكاتير ويضحكنا على حالنا في مجلات "صباح الخير" و"روز اليوسف" ومن بعدهما في "أهرام" هيكل، لكنه كان أيضًا شاعرًا ثوريًا كما في أشعاره الخالدة لـ"جمال عبدالناصر" هذا الفلاح الذي حلم به "جاهين" يحرر مصر من سطوة "البرجوازية" و"الاحتلال" ويحقق حلم "المحروسة" بالجلاء والسيادة الوطنية، وكان جاهين شاعرًا غنائيًا يؤلِّف الأغاني الخفيفة لسندريلا الشاشة "سعاد حسني" في السبعينيات بأفلامها "خلي بالك من زوزو" أو يكتب قصة "أميرة حبي أنا"، و"عودة الابن الضال"، أو يكتب أشهر مسرحيات الفولكلور المصري وأقدم مسرحيات عرائسنا "الليلة الكبيرة" الممزوجة بين حوارات "الأراجوز" و"بائع الحمص" و"معلم القهوة"، بل وصل نجاح جاهين إلى أنه كان ممثلًا في عدد من الأفلام مثل "شهيدة الحب الإلهي" و"من غير ميعاد" سنة 1962، مرورًا بـ"موت أميرة" سنة 1980 وختامًا بـ"وداعًا بونابرت" مع المخرج "يوسف شاهين" عام 1958.
كان صلاح جاهين فنانًا شاملًا، ولد في حي "شبرا" في 25 ديسمبر سنة 1930، اختار الفن حياة ومحرابًا، هجر دراسة القانون ورفض أن يعيش في جلباب أبيه الذي كان يعمل في السلك القضائي، ورغم براعته في فن الكاريكاتير إلا أن "جاهين" كان تلميذًا أقل من متوسط في درجات الرسم، حتى فجَّر موهبته أستاذه بالمدرسة الأستاذ "الأرناؤوطي"، ومن هنا انتقل ليعمل بمجلة "صباح الخير" رسامًا كاريكاتيريًا، ومن بعدها لـ"روز اليوسف" ثم عرضت عليه "الأهرام" الالتحاق بركبها في زمن الأستاذ "هيكل" التي ضمَّت وقتها ألمع كتاب مصر من "توفيق الحكيم" لـ"نجيب محفوظ" والكثير من عمالقة الأدب والكتابة، وقتها.
أعطى "جاهين" كل عواطفه لجمال عبدالناصر، ولم يتردد لحظة في الدفاع عنه لعشقه الشديد له، حيث كان جاهين ضمن الجهاز الدعائي لثورة يوليو- لكن برغبته وليس لرهبته- ولم يفوِّت "جاهين" فرصة ليضع اسم "عبدالناصر" في أغانيه مثل (صورة، أمة أبطال علما وعمال، معانا جمال، بنغني غنوة فريحية)، لكن النكسة في العام 1967 جعلته ينطوي وينزوي بعيدًا، وكما عاد الوعي لـ"توفيق الحكيم" في 1974 وأعلن انخداعه بعصر عبدالناصر، أعلن "جاهين" انخداعه هو أيضًا بالزمن الناصري، حسبما جاء في كتاب "أفكار ومشانق" لمحمد الباز صفحة 177.
وعانى "جاهين" من حالة اكتئاب حادة بعد النكسة، وهجر الكتابة والقلم، حتى دخلت سعاد حسني حياته بصداقة طاهرة فأقنعته بالعودة فكتب لها نصًا وأغاني لفيلمها "خلي بالك من زوزو" جعلت منها نجمة النجوم وأصبح الفيلم من أهم أفلام سينما السبعينيات، وانطلق مرة أخرى للكتابة ومثلما كتب "يا واد يا تقيل" كتب "بمبي"، واعتبره البعض "هلاسًا" بعد أن كان "ثوريًا"، لكنه ظل فيه حنينًا للماضي حنين النوستولوجيا رغم انتقامه من ناصر في تكملة رباعياته حتى إن البعض يقول إنه انتقم من قائده على طريقته، فكتب:
يا طير يا عالي في السما طز فيك
ووالدي إليك بدل البالون ميت لون
انفخ وطرقع على كل لون
عساك تشوف بعينك مصير الرجال
المنفوخين في السترة والبنطلون
وفي 21 أبريل عام 1986 رحل جاهين عن دنيانا مخلدًا تراثًا حافلًا له ليبقى اسم "جاهين" في محيانا.