قال الرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام: «ذرونى ما تركتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عن شىء فدعوه».
وفى رواية أخرى «ما أمرتكم به فخذوه وما نهيتكم عنه فانتهوا». وفى حديث آخر يؤكد ما سبق «ما أحل الله فهو حلال، وما حرم الله فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيه، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً، ثم تلا الآية: وما كان ربك نسياً».
أو قال «الحلال ما أحل الله فى كتابه، والحرام ما حرّم الله فى كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه».
ولا يكتفى عليه السلام، بل يُكرر المعنى مجدداً فى حديث آخر، ليؤكد كل الأحاديث الشريفة السابقة إذ يقول «إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً لكم من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها».
أحاديث كرّرها وعدّدها الرسول الكريم مرات ليُقرر ويؤكد فى معنى صريح وواضح لا يحتمل أدنى لبس أو غموض أن هناك فى هذا الدين ما تركه الله سبحانه ولم يأتِ عليه بذكر فى دينه ولا فى سنة نبيه، سكت عنه عمداً وقدراً لا سهواً ولا نسياً، وما كان ربك نسياً، أرادت حكمته ومشيئته ذلك، ولا معقّب على حكمه ومشيئته إلا الجاهلون المراءون المدعون.
ثم هؤلاء الذين صيّروا أنفسهم أنبياءً ورسلاً بما قدّموه من إدخالات لمعانٍ وأحكام لم تكن لا فى قرآن ولا فى حديث، وألحقوا هذا الذى ابتدعوه بما يشبهه فى النصوص، اعتماداً على وجود شبه ما فى وجه من الوجوه، بينما القرآن الكريم نزل للعالمين على اختلاف العقول والأفهام، وعلى اختلاف البيئات، وعلى اختلاف الأزمان.
كان واضحاً صريحاً فيما أراد تبليغه وإلزام الناس به، ثم وهذا الأهم هنا، أنه ترك أموراً وسكت عنها قاصداً وتركها للناس كأمر من أمور الدنيا لا يلزمها ولا يُخضعها بما سكت عنه، وإلا ما سكت عنه وتجاهله وتركه. لكن عرب الجزيرة كانوا بارعين فى البلاغة، ولم يكن لهم لا فى زراعة ولا صناعة، ولم يكن لهم فى غير التجارة والسفر، وهو عمل يعتمد على منطق القول وحسنه أيضاً، ولذا نزل عليهم القرآن الكريم آية للبلاغة التى تُعجزهم وتملأ نفوسهم وتُخضعهم إعجاباً ثم إيماناً بالدين الجديد الذى كان سبباً رئيسياً فى أن تقوم من هذه القبائل المتناحرة، التى لا عمل لها غير التجارة والإغارة، دولة بعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، نتيجة لانتصار جماعة النبى محمد على الأرض حربياً، وفكرياً بمبادئ العدل والمساواة، وعملياً بجعل خلافته فى قريش منعاً لمزيد من المناوءة للتجمع السياسى الوليد.
وهذا ما أعطاها شرعية القيام، واقع اجتماعى وسياسى جديد، وليس نصاً من النصوص، ثم إن الصراعات السياسية دبّت بين الجماعة السياسية الناشئة بهدف الوصول إلى السلطة واحتكارها بدءاً من صراع السقيفة بين أبى بكر وسعد، ثم الصراع بين أبى بكر وعلى، ورغم أن هذا الصراع السياسى الأول اعتمد لحسم خلافاته أساساً على منطق وحجة العصبية القبلية (مهاجرين - أنصار) أو (شجرة قريش - ثمرتها).
إلا أنه كان من الضرورى أن يُستخدم الفكر الدينى الجديد فى الخلافات التالية، كما ظهر فى محاولات خلع الخليفة الثالث عثمان بن عفان، الذى رفض مطلب الثائرين عليه، معتمداً على منطق دينى (مزعوم): لم أكن لأخلع سربلاً سربلنيه الله! أى أن الله جعلنى خليفة ولن أترك ما أُعطيت.
كانت الخلافات السياسية والعصبية نقطة انطلاق لاستكمال العرب ببلاغتهم ديناً من عندهم وإضافة ما يشاءون، وما ليس فى الدين الأصيل واصطناع أحاديث، وكل ما يخدمهم فى الصراع السياسى والعصبية القبلية «وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ»، ثم التمسّك بتلابيبه وادعاء الذود عنه وتفسيره حسب الهوى، ثم اصطناع ما تلا ذلك من طرق لتنظيم هذه الخلافات والحد منها بما سُمى علوم الدين، بينما قال الله تعالى «وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ».