صراع الأقطاب.. الدوافع والمآلات
اعتمدت الاستراتيجيات الهادفة، إلى خلخلة الأوضاع السياسية، وإعادة توزيع موازين القوى على الصعيد الدولي، نهج الصدمة عبر أحداثٍ مفتعلة، تبدأ بالكوارث وتنتهي بالحروب المُخَلّقة، لضمان السيطرة على المقدرات العالمية، وجسدت الحرب العالمية الأولى ثم الثانية نموذجًا لتلك الاستراتيجية العميقة، حيث أعقب الأخيرة وما تلاها من أحداثٍ جِسام، أبرزها تفتيت الاتحاد السوفيتي، اتفاقيات غيرت وجه النظام المالي العالمي، بخلق قطب أوحد يسيطر على أدواته.
مع بداية الثورة الصناعية الرابعة، وبوادر ظهور نمط الاقتصاد التشاركي، استشعرت القوى العظمى الراعية للرأسمالية، التغيير القادم -لا محالة- في ظل سيطرة الصين على صناعة التكنولوجيا، وتحولها السريع نحو الثورة الجديدة، ما جعلها مرشحة للسيطرة على الاستثمارات العالمية، بنسبة قد تتخطى 70%، وهو ما صنفه البيت الأبيض، على أنه تهديد وجودي لمكانته، ومحاولة لتغيير موازين القوى الدولية من قبل الخصوم.
استراتيجية الصدمة
استدعت تلك المتغيرات، اللجوء لاستراتيجية الصدمة عبر صناعتها على الصعيد الدولي، وربما لم تكن جائحة كورونا مجرد فيروس انتشر في ربوع العالم صدفة، دون أن يكون وراءه راعٍ أو صانع، وربما اُستدرج الروس إلى الأزمة الروسية الأوكرانية، عبر تسريبات استخباراتية مُحكمة، بشأن معلومات غير حقيقية حول القوة العسكرية للعاصمة كييف، وما يدلل على ذلك، تغير خطط موسكو التي قدرت أجهزة استخباراتها إمكانية السيطرة على الأراضي الأوكرانية وتغيير نظام الحكم في غضون أسبوع.
انتهجت الإدارة الأمريكية، استراتيجية جديدة في محاولة هدم النمر الاقتصادي الصاعد وحلفائه، خاصة مع توسع الأعمال العسكرية الروسية في الشرق الأوسط، وتموضع قواتها بساحل المتوسط، فضلا عن الصعود المتنامي للنفوذ الإيراني -الحليف الروسي- في الشرق الأوسط.
صراعات متعددة عن بُعد
لم يلجأ البيت الأبيض إلى حربٍ مباشرة على غرار ما حدث في الماضي دفاعا عن مصالحه، وإنما أدار صراعات متعددة عن بُعد، فالاستفزازات الجارية في بحر الصين الجنوبي، ومحاولة إشعال حرب بين تايوان وبكين أحد أحدث عناصر الاستراتيجية الجديدة التي تُدار وفق خطة ترمي إلى الحد من قدرات الخصوم على كل الأصعدة، تزامنًا مع اللعب بورقة الاتفاق النووي، في مناورة سياسية تهدد باستهداف منظومة الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط.
مؤخرا لجأ البيت الأبيض، إلى تشكيل تحالفات اقتصادية عدة في المحيطين الهادي والهندي وفق خطة قائمة على الجغرافيا السياسية، استهدفت خلق أنماطًا جديدة للتحالفات فيما يخص صناعة التكنولوجيا وتحديدًا «الرقائق»، لعرقلة الصعود السريع للعاصمة بكين، وتجلى ذلك في المواجهة التي انتهجها البيت الأبيض، مع إحدى أهم الشركات الصينية «هواوي»، مع تشكيل تحالفات موازية، مهمتها السيطرة على ممرات التجارة العالمية، إلى جانب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، لخلق بؤرة متوترة بالقرب من حدود الخصوم في آسيا.
تخفيض إنتاج النفط
الخطة الأمريكية وإن كانت تبدو مُحكمة في ظاهرها، إلا أنها تواجه عقبات من قبل الدول الفاعلة، وسط حالة اضطراب في صفوف معسكر الشرق والمعسكر الأمريكي، تجلت في قرار تخفيض إنتاج النفط العالمي، بما يؤثر على الاقتصاد الأمريكي والدولي، وهو ما تحاول الإدارة الأمريكية التعامل معه بهدوء، دون اتخاذ قرارات متعجلة قد تتسبب في خسارة حلفائها الذين صنعوا من الدولار ماردا يهدد اقتصادات العالم، ويحول دون تحقيق الرفاهية للشعوب.
ولا شك أن تلك المواجهة مع الحلفاء، نجمت عن خلافات سياسية تتعلق بمصالح الدول على صعيد الأنظمة، خاصة بعد تولي الجمهوريين رئاسة البيت الأبيض، وانتهاج سياسة مغايرة تناطح توجهات المؤسسات العميقة، ما شجع بعض الدول على ضرورة إحداث التغيير، إما بإجبار واشنطن على تغيير سياساتها الدولية، أو بمواجهة رعونة الديموقراطيين، فيما يخص التعامل مع الملفات الداخلية للدول، والحد من محاولات التدخل التي وُصفت بالابتزاز.
معسكر الشرق
نجاح الاستراتيجية الأمريكية الهادفة لاستعادة سيطرتها على العالم -من عدمه- يتوقف على مدى تطابق المواقف بين أعضاء معسكر الشرق والدول الداعمة له، وتحركاتهم السياسية والاقتصادية على الصعيد الدولي، لأن اختلاف الرؤى والتوجهات الناجم عن الضغوط الأمريكية إلى جانب حالة التردد في اتخاذ القرار، بشأن الانخراط في تحالفات جديدة -مع استثناء وحيد بشأن إنتاج النفط كسلاح في مواجهة الغرب- يُقصر الأمر على نتائج الأزمة الروسية الأوكرانية، ويُحمّل الروس ضرورة التحرك المنفرد لإخضاع الغرب، وضمان استقطاب مزيد من الداعمين الدوليين وفرض الأجندة الروسية الهادفة لخلق أقطاب متعددة تقود العالم عبر اعتماد نظام مالي عالمي جديد يحقق العدالة بين الدول.
إنّ الرهان الأمريكي على الحرب الاقتصادية، عبر رفع أسعار الفائدة، واستقطاب رؤوس الأموال، بهدف إضعاف الاقتصادات الدولية، يخلق صعوبة أمام موسكو في مواصلة حربها مع الغرب والأمريكان، خاصة حال استمرار دعم أوكرانيا بسلاح الغرب، بهدف استنزاف بوتين عسكريا واقتصاديا، الأمر الذي يعوق الدب الروسي، ويضعه في مأزق، ربما يضطره إلى استخدام قوة الردع النووي، لتبدأ الحرب العالمية الثالثة، وقد تكون الأخيرة، هدفا لنفس الاستراتيجية الأمريكية المُعتمدة على محاور مختلفة وسيناريوهات متغيرة، وفقًا للموقف.