حكم هيرودس فلسطين وكان قاسياً فظاً غليظاً دموياً ذبح كهنة ونبلاء، وكذلك النبى يحيى، وهو الذى سلب قبر داود النبى ليُنفق على ملذاته.وبلغته نبوءة أن طفلاً سيُولد هذا العام من بيت لحم يسلبه ملكه، فلما علم بولادة المسيح من بعض خاصته، أمر بالبحث عنه فى «بيت لحم»، فانقض جنوده على الرضع ينزعونهم من صدور أمهاتهم الخافقة بالرحمة ليذبحوهم ذبح الأغنام ويحولوا البلدة الآمنة إلى صراخ وعويل واتشاح بالسواد.
وقبلها بيوم رأى «يوسف» فى منامه أن يحمل المسيح وهو طفل وأمه العذراء ويسير بهما إلى مصر، فسار بهما قبل انقضاض جنود هيرودس على «بيت لحم».اختار الله لهذه الأسرة المباركة مصر دون سواها، كان يمكنهم الذهاب إلى العراق أو سوريا، بعيداً عن سلطة هيرودس، ولكن الله شاء أن يبارك مصر وأهلها ويزيدها تشريفاً بهذه الرحلة المباركة.
سار الركب الصغير مودّعاً فلسطين حتى وصلوا إلى طريق القوافل الداخلة إلى سيناء.هناك تمثّلت أمامهم مشاهد التوراة وكأنها تحدث لتوها، ففى هذا الطريق بيع يوسف الصديق عليه السلام بدراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين.ومنه سار يعقوب بأهله ليدخلوا مصر آمنين، وتكون لهم العزة والكرامة التى صنعها لهم يوسف، وهو على خزائن مصر.
ومن قبل مر بهذا الطريق من فلسطين إلى مصر أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، الذى جاء مع زوجته «سارة»، والتى عصمها الله من مكر فرعون، فأهداها جارية اسمها «هاجر» من مدينة ملوى.تذكرا كيف صارت «سارة» أماً لأمّة عريقة هى بنى إسرائيل، والتى انحدر المسيح من نسل داود وسليمان، وهما من أعظم أنبياء بنى إسرائيل، وكيف أصبحت هاجر «أم إسماعيل» أماً للعرب التى خرج منها عشرات الأنبياء، مثل هود وصالح وشعيب وإدريس، وكأن أصل العرب والمسلمين جميعاً جاء من مصر.
وفى هذا الطريق ذهب موسى هارباً من فرعون بعد أن وكز المصرى فمات منها دون قصد، وفيه عاد مع زوجته وتلقى وحى السماء وكلمه الله كفاحاً دون واسطة.شعروا بالأمان والدفء والرحمات بمجرد دخولهم مصر وهم يجترون ذكريات الأنبياء فى مصر، فهى حلوة فى مجملها ومرة فى بعض الأحيان.
لم يتصور هذا الركب الصغير المكون من العذراء مريم والطفل الصغير عيسى ويوسف النجار الذى سخره الله لخدمتهم ورعايتهم والسهر على حاجتهم ومعهم حمار أن هذه الرحلة سوف تخلد على مر العصور، وأن رسالة التوحيد وعبودية الواحد الأحد التى جاء بها عيسى المسيح سوف تزرع فى مصر قبل فلسطين موطنه الأصلى.استمرت مسيرتهم حتى وصلوا إلى طور سيناء والوادى المقدس طوى، فتذكروا موسى ورحلته وصبره وعناءه.
عندما دخلوا مصر نظروا إلى النيل العظيم نظرة محبة كأنهم يعرفونه من قبل، إنه النهر الوفى مع الأنبياء، تذكروا كيف كان مهداً للطفل العظيم موسى، وكيف حمله النيل إلى قصر فرعون، إمعاناً فى السخرية منه، فهذا الوليد الذى تريد قتله سيتربى فى قصرك وتحت كنفك، وستأتى أمه لإرضاعه بأجر منك رغماً عنك.سلسلة متتابعة من الرسل والرسالات وقصصهم جالت بخاطر هذا الركب الصغير وهو يمر بسيناء تارة أو يرى النيل تارة، فذكريات الأنبياء والصالحين محفورة فى سجل التاريخ لا يمحوها جاهل أو معاند.
مصر هى أول مكان فى العالم كله اتّخذ فيه المسيح معبداً، وقد شرف الصعيد عامة، والقوصية خاصة، بأن مكث فيها ستة أشهر كاملة دون سواها، حيث لم يمكث كثيراً فى أى موطن، وكأنه أراد أن تحل بركته على معظم محافظات مصر.اختلف المؤرخون فى مدة رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، وأكثرهم حدّدوها بعامين، وآخرون بثلاث سنوات ونصف، وما سوى هذين الرأيين غير صحيح على الراجح.
وصلت الرحلة المباركة إلى العريش، ثم الفرما «القنطرة شرق»، ومنها إلى تل بسطا، وهى من المدن القديمة، التى كانت عاصمة للدولة المصرية فى الأسرة 22، وتقع فى محافظة الشرقية، ويذكر أن التماثيل الفرعونية سقطت وحدها فى معبدها بعد نزول العائلة المقدسة هناك.ثم اتجهت الرحلة إلى مسطرد، ومنها إلى بلبيس، إلى منية سمنود «منية جناح الآن»، ومنها عبرت العائلة نهر النيل إلى سمنود، ثم البرلس ثم سخا، ومكثت يوماً واحداً فى دقادوس «بلدة الشيخ الشعراوى»، ثم وادى النطرون، ثم إلى القاهرة جنوباً، ثم عبرت النيل إلى المطرية وعين شمس.
وبعدها قصدوا مصر القديمة، وسكنت العائلة مغارة كانت معدّة لمبيت الغرباء، وتقع الآن تحت كنيسة أبى سرجة، ثم اتجهوا إلى الجنوب، بداية من المعادى، ثم إلى منف «ميت رهينة الآن بجوار البدرشين»، ثم إلى البهنسا ومنطقة دير الجرانوس، ومنها إلى سمالوط، ثم الأشمونين ومنها إلى ديروط الشريف، التى كان يطلق عليها وقتها «فيليس»، وأقاموا فيها أياماً، فشرّفوا بلدتنا الغالية، حيث إن أمى رحمها الله وأسرتها ينتمون إلى ديروط الشريف، وهى قرية تشعر فى أهلها الذكاء والعبقرية والجمال والخلق الكريم.
ثم اتجهوا إلى «القوصية»، ومنها إلى قرية «مير»، الذين أكرموا وفادتهم -وهم أثرياء حتى اليوم- وبلادهم غنية ببركة المسيح وأمه، ويتميز أهل مير حتى الآن بالجمال والرقة والثراء والخلق الكريم.ومن «مير» إلى أهم محطة فى الرحلة كلها، حيث أقام المسيح أول معبد دشّنه فى العالم، والذى يُدعى الآن «الدير المحرق»، وهو أطول مكان مكث فيه وتعبّد فيه المسيح وأمه، وهو آخر نقطة وصلتها العائلة المقدسة فى مصر على أرجح الأقوال.
وبعدها قفلت العائلة المقدّسة عائدة إلى فلسطين بعد موت الملك هيرودس.سلام على المسيح ابن مريم، الذى وصفه القرآن بأعظم وصف «وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ»، فقد توقفت طويلاً وكثيراً أمام هذا الوسام العظيم الذى لا يناله إلا الأنبياء الذين ملأوا الأرض نوراً وصلاحاً وهدى ورشاداً وحكمة، سلام على مريم العذراء البتول خير نساء العالمين، وسلام على الأنبياء والمرسلين.