4 وجوه لـ«سيد الساجدين وزين الصالحين».. البكّاء الحليم العابد العالم
كرامات آل البيت
سيرة الإمام على زين العابدين مليئة بالنفحات والكرامات، فهو إحدى الشخصيات الكريمة التى حاولت ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً أن تهتدى بالوحى الكريم وتقتدى بالرسول، صلى الله عليه وسلم، وتسير على نسق المهديين فى كل زمان. فى كتابه «سيدنا على زين العابدين» يتناول الإمام الأكبر الراحل عبدالحليم محمود، شيخ الأزهر الأسبق، حياة زين العابدين وحكمه ومواعظه وشعره ورسائله للناس وغيرها مما تحفل به مسيرة سيدنا على زين العابدين، كذلك وجوه الإمام زين العابدين.
1 - البَكّاء السَّجّاد
عُرف عن على بن الحسين، رضى الله عنه، أنه كان كثير البكاء، فقيل له فى ذلك، فقال: إن يعقوب عليه السلام بكى حتى ابيضت عيناه على يوسف ولم يعلم أنه مات وإنى رأيت بضعة عشر من أهل بيتى يُذبحون فى غداة واحدة، فترون حزنهم يذهب من قلبى أبداً؟!
ورأى زين العابدين الحياة تُنتزع فى لحظات من هؤلاء الذين كانوا يحيطون به وتُنتزع فى نوع من اللامبالاة، ونوع من الجرأة على إزهاق الروح بالباطل، وحينما تنتهى الحياة ينقطع عمل ابن آدم إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له. ولقد رأى زين العابدين أن الناس قد انصرفوا عن أعمال الآخرة، فكان كل همهم إنما هو الجرى وراء الملك والسلطان والجاه والاستعلاء والغلبة وهم فى سبيل ذلك يأتون ما يأتون دون مراعاة لدين ولا لحق ولا لفضيلة، ويستمرون فى غيهم سادرين، فتكون الحسرة حيث لا تنفع الحسرة. ويأخذ زين العابدين من كل ذلك العظة والعبرة، فينحو فى حياته نحو هؤلاء الذين لا تغرهم الدنيا، ويسلك فى الحياة مسلك أسلافه الذين قالوا للدنيا: «یا دنيا غرى غيرنا». ومما يرشد إلى طابع «السجاد» نقش خاتمه، ولقد ذكر المؤرخون عدة صيغ لهذا النقش منها: ما توفيقى إلا بالله، لكل غم حسبى الله، القوة لله جميعاً، العزة لله، الحمد الله العلى، إن الله بالغ أمره.
وربما كانت هذه الصيغ دليلاً على أنه كانت له عدة خواتم، نُقش على كل منها شعار خاص، وتلتقى هذه الشعارات كلها لترشد إلى أن على بن الحسين كان ملقياً بقياده إلى الله فى استسلام مطلق، إنه السَّجاد.
2 - الحليم الكريم
كان زين العابدين، رضى الله عنه، كريماً، ويقول ابن كثير: «وذكروا أنه كان كثير الصدقة بالليل، وكان علىّ يقول: صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتنير القلب والقبر وتكشف عن العبد ظلمة يوم القيامة». كذلك كان يتمتع بالحلم، باعتباره سيد الأخلاق تأسّياً برسول الله الذى ما كان يغضب لنفسه قط. فخرج يوماً من المسجد فسبه رجل، فانتدب الناس إليه، فقال: دعوه، ثم أقبل عليه فقال: ما ستره الله عنك أكثر عيوبنا، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل فألقى إليه خميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك إذا رآه يقول: إنك من أولاد الأنبياء.
واختصم على بن الحسين وحسن بن حسن وكان بينهما منافسة - فنال منه حسن بن حسن وهو ساكت، فلما كان الليل ذهب على بن الحسين إلى منزله فقال: يا بن عم، إن كنت صادقاً يغفر الله لى، وإن كنت كاذباً يغفر الله لك، والسلام عليك، فلحقه فصالحه، ولقيه رجل فسبه فقال له: يا هذا، بينى وبين جهنم عقبة إن أنا جزتها فما أبالى بما قلت وإن لم أجزها فأنا أكثر مما تقول، ألك حاجة؟ فخجل.
وكان ينشد: وما شىء أحب إلى اللئيم.. إذا شتم الكريم من الجواب. وقيل عنه: سكبت جارية لعلى بن الحسين عليه ماء ليتوضأ، فسقط الإبريق من يدها على وجهه، فشجه فقالت الجارية: إن الله يقول: والكاظمين الغيظ. فقال: قد كظمت غيظى. قالت والعافين عن الناس. فقال: عفا الله عنك. فقالت: والله يحب المحسنين. قال: أنت حرة لوجه الله.
وعن أبى حمزة الثمالى أن على بن الحسين كان إذا خرج من بيته قال: اللهم إنى أتصدق اليوم أو أهب عرضى اليوم - من استحله. وكان رضى الله عنه يقول: ما تجرعت جرعة أحب إلىّ من جرعة غيظ أعقبها صبرٌ، وما أحب أن لى بذلك حمر النعم.
3 - العابد الزاهد
اتجه على بن الحسين إلى العبادة، وعبادته لها طابعها السامى، إنه يقول: إن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وآخرون عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار، وآخرون عبدوه محبة وشكراً، فتلك عبادة الأحرار الأخيار. وذكروا أنه احترق البيت الذى هو فيه وهو قائم يصلى، فلما انصرف قالوا له: ما لك لم تنصرف؟ فقال: إنى اشتغلت عن هذه النار بالنار الأخرى.
وكان إذا توضأ يصفر لونه، فإذا قام إلى الصلاة ارتعد من الفرق، فقيل له فى ذلك، فقال: ألا تدرون بين يدى من أقوم، ومن أناجى؟ ویروی صاحب الحلية ذلك على النحو التالى: كان على بن الحسين إذا فرغ من وضوئه للصلاة، وصار بين وضوئه وصلاته، أخذته رعدة ونفضة فقيل له فى ذلك، فقال: ويحكم، أتدرون إلى من أقوم، ومن أريد أن أناجى؟ أما فى حجه فإن صاحب الحلية يقول:
ولما حج أراد أن يلبى، فارتعد وقال: أخشى أن أقول: لبيك اللهم لبيك، فيقال لى: لا لبيك، فشجعوه على التلبية، فلما لبى غشى عليه حتى سقط عن الراحلة. ومن مظاهر التقوى عنده ما يقوله الواقدى: كان من أورع الناس وأعبدهم وأتقاهم لله عز وجل، وكان إذا مشى لا يخطر بيده وكان يعتم بعمامة بيضاء يرخيها من ورائه». عن أبى حمزة قال: رأيت على بن الحسين رضى الله عنه فى فناء الكعبة فى الليل وهو يصلى فأطال القيام حتى جعل مرة يتوكأ على رجله اليمنى، ومرة على رجله اليسرى، ثم سمعته يقول بصوت كأنه باك:
یا سیدی، تعذبنى وحبك فى قلبى؟ أما وعزتك لئن فعلت لتجمعن بينى وبين قوم طالما عاديتهم فيك.
وعن طاوس قال: دخلت الحجر فى الليل فإذا على بن الحسين قد دخل فقام يصلى فصلى ما شاء الله، ثم سجد، فقلت:
رجل صالح من أهل بيت الخير لأستمعن إلى دعائه، فسمعته يقول فى سجوده عبيدك بفنائك مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك، فما دعوت بهن فى كرب إلا فرج عنى.
4 - العالم الجليل
كان على بن الحسين إذا دخل المسجد تخطّى الناس حتى يجلس فى حلقة زيد بن أسلم فقال له نافع بن جبير بن مطعم: غفر الله لك، أنت سيد الناس وأفضلهم، تأتى تخطى حلق أهل العلم وقريش حتى تجلس مع هذا العبد - يعنى زيد بن أسلم - فقال: إنه ينبغى للعلم أن يتبع حيث كان. ومرة أخرى أخذوه أيضاً على ما يفعل، فقال: إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه فى دينه. ومرة ثالثة قال: «إنما يجلس الرجل حيث ينتفع، وإن العلم يطلب حيث كان». وعن مسعود بن مالك قال: قال لى على بن الحسين: أتستطيع أن تجمع بينى وبين سعيد بن جبير؟ فقلت: ما تصنع به؟ عن قال: أريد أن أسأله أشياء ينفعنا الله بها ولا منقصة. وعن يزيد بن حازم قال: رأيت على بن الحسين وسليمان بن يسار يجلسان بين القبر والمنبر يتحدثان إلى ارتفاع الضحى ويتذاكران، فإذا أرادا أن يقوما قرأ عليهما عبدالله بن أبى سلمة سورة، فإذا فرغ دعوا. ويقول صاحب كتاب: أعلام الشيعة. وكان إذا جاءه طالب علم قال: مرحباً بوصية رسول الله ثم يقول إن طالب العلم إذا خرج من منزله لم يضع رجله على رطب ولا يابس من الأرض إلا سبحت له إلى الأرضين السبع.
وكان تقديره للعلم عظيماً: عن فضيل بن غزوان قال: قال لى على بن الحسين: «من ضحك ضحكة مج مجة من العلم». وكان يقول: من كتم علماً أحداً، أو أخذ عليه أجراً رفداً، فلا ينفعه أبداً».
وكان رضى الله عنه يؤمن بأن من ثمار العلم أن يستخدمه الإنسان فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: إنه لم يكن سلبياً يعلم ولا يستفيد الناس بعلمه، كلا.. إن العالم لا بد له من خوض معركة إصلاح المجتمع. وإذا كان زين العابدين رضى الله عنه معنياً بالعلم على وجه العموم، فإنه رضى الله عنه كان معنياً بحديث رسول الله على وجه الخصوص. وسيرة الإمام - رضوان الله عليه - مثل أعلى فى التمسك بما يراه حقاً، وفى الصبر على ما يناله فى سبيل التمسك بالحق.