وكأننا على محطة انتظار قطار الحزن يومياً، ننتظره بشوق على أمل أن يحمل إلينا أخباراً سارة ولكنه دوماً يلقى إلينا ببضاعة الحزن ويصفّر مغادراً المحطة ليلملم أشلاء حزن جديد فى رحلة هَم وكمَد جديدة، خبران حزينان صدمانى أمس؛ الأول وفاة الفنان الجميل د. هناء عبدالفتاح الأستاذ بمعهد الفنون المسرحية، والثانى توقف الشاعر المبدع أحمد عبدالمعطى حجازى عن الكتابة فى الأهرام كنتيجة لأخونة الصحف القومية والتى تظهر نتائجها يومياً بعمود ممنوع أو مقال مشطوب أو رئيس تحرير مرفوت أو كاتب مهاجر مصادَر لأنه رجس من عمل الشيطان فى زمن ملائكة الإخوان. الصدفة جمعت الاثنين المبدعين بصلة قرابة؛ فالدكتور هناء هو شقيق زوجة حجازى، أما الأول، د. هناء عبدالفتاح، فهو صديق جمعتنى به الصدفة أثناء تقديمى لبرنامج فى قناة «أون تى فى» أثناء حلقة عن الرقابة والمسرح، وللأسف لم أكن قد عرفت بعد بقيمة إبداعه فى الإخراج المسرحى لأنه فى مصر لا يُعرف المخرج إلا إذا ظهر على شاشة التليفزيون أو مارس التمثيل مثلما حدث مع كرم مطاوع وسعد أردش وأحمد عبدالحليم، وكان هناء قد شارك الفنان عادل إمام بعض الأعمال الفنية والتى اختتمها بدور اليهودى صاحب المطعم فى «ناجى عطا الله»، ساهمت هذه الأدوار فى معرفة الجمهور به ولكنها للأسف الشديد أبعدتنا أكثر عن التعرف على هذا المبدع الذى كان يتنفس مسرحاً يسكن نخاعه وخلاياه، كان عاشقاً للمغامرة المسرحية، ولا أنسى أنه كان أول من تحمس لدعوتى بإخراج «الحسين ثائراً» وإعادة إخراج مأساة الحلاج ولكن القدر والمناخ المعادى للفن حرماه من تحقيق هذا الحلم، كان عاشقاً للأماكن المفتوحة فى أعماله المسرحية لدرجة أن بداياته كانت فى مسرح الجرن عند الفلاحين، وساهمت دراسته فى بولندا التى منحته أرفع درجات التكريم فى ترسيخ هذا المفهوم فى مسرح الهواء الطلق والتفاعل الحى، كانت حواراتنا الأخيرة تحمل الكثير من الشجن، وكان الحزن يغلف صوته خاصة مع تدهور أحواله الصحية بعد إصابته بالسرطان الذى كان يمثل آخر عملين له وهو يعانى من افتراسه لخلاياه، رحم الله هذا الفنان الذى ظلمه الإهمال والرغبة الدفينة فى تقديم فن مختلف وإبداع متفرد. الخبر الحزين الثانى هو موقف جريدة الأهرام من الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى الذى غادرها بعد أن ضاقت به وبآرائه التنويرية الجريئة فى زمن يحتل فيه الدكتور ياسر على المتحدث باسم الرئاسة ضعف المساحة التى يكتب فيها حجازى!!، إذا كان القائمون على الأهرام لا يعرفون من هو أحمد عبدالمعطى حجازى ولا يعرفون قامته وقيمته فهذه كارثة، فحجازى مكسب وثروة وكنز منذ أن كان صحفياً شاباً فى روزاليوسف وحتى استقر فى الأهرام كصاحب قلم مستنير شكّل وجدان وعقول الملايين فى شرق العالم العربى وغربه، مروراً بتجربته الثرية وصراعه الشرس فى سبيل إرساء دعائم الشعر الحديث ومنها معركته مع العقاد نفسه ثم مطاردة نظام السادات له وإجباره على ترك مصر سنوات طويلة شاخ فيها الجسد ولكن القلب والعقل والإبداع ازدادوا شباباً وتألقاً وثورة. لا أجد أفضل من كلماتك يا حجازى كخاتمة أقتبسها من مرثية لاعب سيرك وأظن أننا جميعاً نعيش فى سيرك ولكننا للأسف لا نمتلك مهارة لاعبيه!
فى أيِّ ليلةٍ تُرى يقبع ذلك الخطأ
فى هذه الليلة! أو فى غيرها من الليالْ
حين يغيض فى مصابيح المكان نورها وتنطفئ
ويسحب الناس صياحَهم
على مقدمِك المفروش أضواءَ
حين تلوح مثلَ فارس يجيل الطرْفَ فى مدينتهْ
مودعاً. يطلب وجد الناسِ، فى صمت نبيلْ
ثم تسير نحو أوَّلِ الحبال ِ
مستقيماً مومِئا
وهم يدقون على إيقاع خطوِك الطبولْ
ويملأون الملعبَ الواسعَ ضوضاءَ
ثم يقولون: ابتدئْْ
فى أى ليلةٍ ترى يقبع ذلك الخطأ