لا يسعنى إلا أن أرى نقطة الضوء الرائع فى السجالات المصرية الشعبية الدائرة حول كليوباترا والحضارة الفرعونية والتاريخ المصرى، سواء من جهة ما تقدمه «نتفليكس» بين الحين والآخر، أو ما يجرى فى دوائر النماذج الفكرية، مثل «المركزية الأفريقية» (أفروسنتريزم) وغيرها من محاولات استلاب سمة التفرد وسرق صفات السبق والتحضر والعبقرية من الحضارة المصرية القديمة ونسبها لآخرين أو حتى ادعاء امتلاك حضارات أخرى للسمات نفسها أو حتى أفضل منها.
وبعيداً عن محتوى هذه السجالات التى تدور رحاها عقب كل محاولة قفز على حضارتنا من هنا أو تقليل منها من هناك، فإن ما تعكسه هو قدر من عودة الوعى. إنه الوعى بالهوية الوطنية البعيدة عن «طظ فى مصر» أو وضع الانتماء الدينى والانتماء الوطنى على ساحة المقارنة وكأن الواحد يلغى الآخر والترويج لأن من يتطابقون معنا فى خانة الديانة هم الأقرب بالضرورة وبالعافية. وهو الوعى الذى تنازل بعضنا عن جزء معتبر منه على مدار النصف قرن الماضى لأسباب وعوامل عدة، وهى التى تضامنت مع تجاهل شبه تام من قبل الحكومات والمؤسسات الرسمية بشكل واضح وصريح بدءاً من الثمانينات مروراً بالتسعينات وحتى أحداث يناير 2011، وهى الأحداث التى أزاحت الغطاء عما تموج به دواخل المجتمع من مجريات وتغيرات كاملة فى بنيان الثقافة والهوية المصرية.
هذه السجالات المدافعة عن هوية ملوك وملكات مصر القديمة، أو قواعد وأساسيات الحضارة المصرية، أو عبقرية المكان والزمان فى مصر لا تعنى إلا أن يقظة ما - وإن ظلت محدودة- تجرى فى مصر. ويكفى أن خروج أحدهم اليوم ليكرر ترّهات ما كان يقال دون رد فعل غاضب، بل كان ينظر له البعض باعتباره خير الكلام أو عين العقل مثل «الحضارة الفرعونية حضارة عفنة» أو المطالبة بهدم «أصنام» حضارتنا العريقة أو تغطية التماثيل من قبل مهاويس الجنس أو تحريم السياحة الثقافية التى تفد إلينا لزيارة أكثر آثار العالم ثراء وروعة وقيمة (وآثاره ما زالت باقية لدى فئة ليست قليلة ممن يفترض أنهم يعملون فى قطاع السياحة)، هذا الخروج اليوم سيلقى ردوداً شرسة ودحض افتراءات وأكاذيب بحجج المنطق وبراهين العقل.
أتابع مناقشات الأصدقاء فى الواقع، وأطالع جانباً مما يرد على منصات الـ«سوشيال ميديا» حول حضارتنا المصرية وأستشعر عودة حميدة ومحمودة إلى قواعد الانتماء الوطنى، سمة الشعوب الأصيلة. سمة الشعوب الأصيلة الفخر بتاريخها والسعى إلى تحسين حاضرها وتنقيته من الشوائب والأتربة وأمارات الصدأ والعفن، بالإضافة إلى التمهيد لمستقبلها بفكر ثاقب وعمل صائب. والحقيقة أننا أخطأنا وقصرنا فى حق أنفسنا حين تنازلنا عن جانب من هويتنا، وهو الخطأ الذى ساهمت فيه تيارات «فكرية» (مع الاعتذار للفكر) تعمل على نشر ثقافة الظلام والسواد والتخويف والترويع والكراهية بعد إلباسها جلباب الدين وعباءته. أما سكوت مؤسسات الدولة حينها، فهو خطأ لا يُغتفر. ورأيى الشخصى أن الفساد المالى يمكن أن يحاسب فى قاعات المحاكم وما ينجم عنها من أحكام، أما ترك شعب بأكمله غارقاً فى ترهات «ثقافية» مميتة وانهيارات تعليمية رهيبة إلى آخر القائمة، فهو أمر لا يغفره التاريخ.
تاريخ مصر حافل بالكثير، ولا يقتصر على الحضارة المصرية العظيمة، أو التاريخ القبطى الرائع أو الإسلامى وغيرها. وهو حافل أيضاً بعقود عظيمة شهدت أروع الإنجازات وأخرى شهدت تدهوراً وتأخراً. والتاريخ لا يقف عند حقبة بعينها، أو يسير فى خط مستقيم. لمن أسوأ وأفدح ما يمكن أن يشهده شعب ما هو أن يقوم هو نفسه بنبذ هويته، ويقنعه «علماء» بأنه اعتناق هجين من الثقافات أو الهويات المستوردة، فيمتثل ويستسلم.
ألمح أمارات صحوة ثقافية، وإن ظلت ضبابية وغير منظمة، وأرى علامات عودة الوعى، وإن ظلت مقتصرة على فئات محدودة بدأت تناقش عودة الوعى المصرى. صحيح أن بعض النقاشات تجنح إلى أفكار عجيبة بعض الشىء، أو تستند عن حجج شخصية غير علمية، لكن مجرد الطرح للنقاش أمر بالغ الإيجابية.
وعلينا ألا نقلل من حجم وعمق وفداحة ما مررنا به من مرارة على مدار عقود. إنها مرارة فقدان الهوية والثقافة التى هى الأصعب فى إعادة البناء. فالمبنى الخرسانى يمكن إعادة بنائه بالطوب والحديد والأسمنت، أما الأفكار والعادات وأسلوب الحياة فيتطلب ترميمها جهداً جهيداً وفكراً مستنيراً وإرادة حديدية، لماذا؟ لأن عطب الأفكار لا يعبر عن نفسه بسقوط طوبة أو كسر فى الجدار. ويتطلب قدراً من الصفاء الذهنى من أجل ملاحظته وتحديد مواطن العطب فيه.
نشكر السنوات الصعبة التى مررنا بها، والأحداث الجسام التى فرضت نفسها علينا، فلولاها لمضينا قدماً دون أن نلحظ أن ثقافتنا فى حاجة إلى استعادة، وهويتنا تتطلب استرجاعاً.