أخطر ما تمر به مصر الآن هو ما يحدث بشأن الدستور والجمعية التأسيسية، والخطورة تأتى من أمرين: انقسام النخبة السياسية، وتصديرها لأزماتها إلى الشارع.
يغيب عن أطراف الأزمة حقيقة أثبتتها تجارب دول كثيرة، وهى أن نجاح عملية التغيير السياسى وبناء نظام ديمقراطى يتطلب قيام (جماعة وطنية) أو (كتلة تاريخية وطنية) تتفق على الأولويات الوطنية وعلى ملامح وتفاصيل النظام الديمقراطى المنشود الذى ستكون فيه الشريعة قيداً على المشرّع وبحيث لا يمكن للبرلمان سن تشريعات تخالف الإسلام، وبحيث يكون لدينا نظام للحكم يقوم على حكم القانون ودولة المؤسسات الديمقراطية المنتخبة، ويمكن من خلال هذه المؤسسات اختيار الحكّام ومحاسبتهم والتداول على السلطة وحماية الحريات وضمان العدالة الاجتماعية والمشاركة والمواطنة وتكافؤ الفرص للجميع.
عدم فهم بعض النخب لهذه الحقيقة، وضيق أفق بعضهم الآخر، وإعلاؤهم لمصالحهم الحزبية الضيقة أمور فى غاية الخطورة، وتزداد خطورتها عندما تُصدّر النخب خلافاتها للشارع وتدفع أنصارها للميادين كما حدث يوم 12 أكتوبر. وهناك دعوات خطرة أخرى، كدعوة أعضاء بالجمعية التأسيسية أتباعهم للتظاهر ضد مسودة الدستور، برغم أنهم ارتضوا العمل بالجمعية وقبلوا نظامها الداخلى، الأمانة تقتضى الوفاء بالعهود والعمل لتحقيق توافق وطنى موسع داخل الجمعية، وإلا فقد يتكرر نفس الشىء من الآخرين. وهناك دعوة لحسم مسألة الشريعة فى استفتاء خاص، وهذه دعوة قد تكرر مسألة الجنة والنار وتعمق الانقسامات أكثر. وفى المقابل، هناك دعوات خطرة أخرى تنادى بإسقاط النظام وإقصاء الإخوان.
هذه الأمور قد تصل بالبلاد إلى حرب أهلية تدمر كل شىء، أو قد تمهد الطريق لديكتاتور جديد يأتى من الجيش أو من خارجه وتدعمه فئات من الداخل أو الخارج، أو على أقل تقدير قد تؤخر عملية البناء وترفع الثمن الذى ندفعه.
معركة مصر الحقيقية هى بناء نظام جديد يمنع عودة الاستبداد وقمع الحريات، وبالتالى فجهود النخب لا بد أن تتجه للبحث عن الوسائل التى تحقق هذا الهدف، بجانب إنقاذ الاقتصاد وإعادة بناء قطاعات التعليم والصحة والمواصلات وبناء الطرق والجسور والمدن. أليست السياسة عند ابن عقيل «ما كان من الأفعال بحيث يكون الناسُ معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول، عليه السلام، ولا نزل به وحى؛ فإن أردت بقولك (لا سياسة إلا ما وافق الشرع) أى لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة»..
الحل، فى اعتقادى، هو فى اقتناع الرئيس مرسى وحزب الحرية والعدالة بضرورة قيامهم بواجبهم التاريخى (باعتبار أن الحزب هو أكبر الأحزاب وأكثرها تنظيماً) والمساهمة، مع كل القوى الوطنية فى بناء هذه الجماعة أو الكتلة التاريخية الوطنية، وتقديم تنازلات حقيقية لجميع شركاء الوطن، وجمْع الأحزاب الوطنية فى جبهة وطنية موسعة، وإشراكهم حقيقةً فى حمل مسئولية البناء ومواجهة التحديات. فالنهضة لا يصنعها فصيل واحد، ولن تتم فى بيئة مليئة بالانقسامات ويسودها الشك المتبادل وحرب الكل للكل.
أمام الجميع طريقان: إنقاذ مصر أو المساهمة فى تدميرها، وأرجو ألا نكون جميعاً كخرقاء مكة التى جاء فيها قول المولى عز وجل: «وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً».