«التأريخ» فى اللغة هو التعريف بالوقت، مصدر «أرّخ». تقول: أرّخت لكتابى يوم كذا، يعنى أثبتّه أو حررته فى هذا اليوم الذى جعلته وقتاً أو تأريخاً له. ولا يخرج تعريف الفقهاء للتأريخ عن معناه فى اللغة، ومن ذلك ما نأخذه من كلام الإمام السخاوى (ت 902هـ) أن التاريخ هو إثبات الوقائع والأحداث مقرونة بزمنها، فالتاريخ لا يكون إلا ماضياً؛ لأنه لا يكون إلا بعد الوقوع للشىء وحدثه.
وتبدأ المشكلة عند الأوصياء من أصحاب الخطاب الإسلامى عندما أشاعوا تعريف السنة النبوية بإطلاقها الثانى الذى انفرد به علماء أصول الفقه فى اصطلاح أنشأوه خصيصاً فى إطار بحثهم عن الأدلة والقرائن التى تعين الفقيه المجتهد على استنباط الأحكام التكليفية، وهو إطلاق السنة على ما صدر عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) من قول أو فعل أو تقرير، كما أورده الآمدى (ت 631هـ) فى «الإحكام فى أصول الأحكام»، وغيره من الأصوليين الكبار، ثم تداوله أصحاب الخطاب الدينى المعاصر على أنه التعريف الشرعى الوحيد للسنة؛ حتى استقر فى وجدان العامة مرادفة لفظ السنة للمرويات الحديثية والآثار النبوية التى تقص بعض أقوال الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتحكى بعض أفعاله وتصف بعض تقريراته التى رآها الراوى وانطبعت فى ذهنه بحسب قناعته الشخصية.
وبهذا الترويج العاطفى للإطلاق الثانى للسنة توهم الناس الحجية المطلقة للأحاديث والآثار المنسوبة للنبى (صلى الله عليه وسلم)، وألحقوا بها المرويات عن الصحابة، خاصة العشرة المبشرين منهم بالجنة وعلى الأخص الخلفاء الأربعة الراشدين. وأهمل الناس بسبب هذا الترويج الغرض الأساسى الذى من أجله وضع الأصوليون هذا الإطلاق الثانى للسنة، وهو البحث بعد القرآن الكريم وبعد السنة النبوية بإطلاقها الأول الذى يعنى الشعائر أو سنن الهدى عما يأتنسون به من مصادر تعينهم على تطوير اجتهادهم وتجديده مثل ما وضعوه من مصادر الإجماع والقياس وشرع من قبلنا والمصالح المرسلة وسد الذرائع والاستحسان والاستقراء والاستصحاب وأقل ما قيل ورؤية النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام، وغير ذلك مما أنكره البعض وأثبته البعض كلياً أو جزئياً.
إن الأصوليين الكبار ما وضعوا الإطلاق الثانى للسنة الذى يعرفها بأنها «المرويات التى تقص بعض أقوال النبى صلى الله عليه وسلم وتحكى بعض أفعاله وتصف بعض تقريراته» من أجل جعل ذلك فى المرتبة الثانية بعد كتاب الله، إنما لجعل تلك المرويات فى المرتبة الثالثة بعد كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بإطلاقها الأول الذى صار غائباً ومهملاً فى ظل خطاب الأوصياء الدينيين المعاصرين الذين عمدوا إلى تهميش تعريف السنة بإطلاقها الأول لإنفاذ مخططهم التسلطى باستغلال إحدى الروايات التى تخدم سياستهم وتبقى نفوذهم. وهم لا يستحيون عندما يعارضون بمرويات أخرى تخالف رؤيتهم أن ينكروها، ولا يتورعون أن ينهشوا فى عرض من واجههم بها وفى عرض بعض رجال سندها بما يخرج عن منظومة الأخلاق والمروءة وأصول الدين الذى يزعمون الوصاية عليه وزعامة اسمه؛ لأن الوصاية مهنة وليست تديناً، كما أن الزعامة صنعة وليست أخلاقاً. ويدل على أن المرويات الحديثية فى المرتبة الثالثة بعد الكتاب الكريم والسنة المطهرة بإطلاقها الأول الغائب ما يلى:
(1) أن علماء أصول الفقه (الأساتذة والتلاميذ) متفقون على تدرج حجية تلك المرويات عند المجتهد الواحد بحسب الثبوت والدلالة، كما أنهم متفقون على إعذار بعضهم بعضاً عند اختلافهم فى إنكار بعضها أو تأويله، وهم يعبرون عن هذا بقولهم «إن أكثر المرويات الحديثية ظنية الثبوت وظنية الدلالة». وهذا يختلف تماماً عن نظرة علماء أصول الفقه للقرآن الكريم والسنة المطهرة بإطلاقها الأول الذى صار غائباً، فالأصوليون يرونهما حجة عند المجتهد الواحد فى مرتبة واحدة، ولهما درجة القطع فى الثبوت عند جميع المجتهدين فلا يعذر بعضهم بعضاً فى إنكار بعضه ولو آية واحدة من القرآن أو سنة متواترة من الهدى. وإن كان ذلك لا يمنع من تعددية دلالات الألفاظ القرآنية، وهم يعبرون عن هذا بقولهم «إن القرآن الكريم قطعى الثبوت ظنى الدلالة فى أحكامه العملية».
(2) أن علماء أصول الفقه (الأساتذة الكبار فقط) يرون الإطلاق الأول للسنة هو المصدر الثانى للتشريع الإسلامى إن لم يكن المصدر المبين للمصدر الأول وهو القرآن الكريم الذى وردت الإشارة إليه فى أكثر من آية من كتاب الله، ومن ذلك قوله تعالى: «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون» [النحل: 44]، كما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم فى حياته النبوية وتعايشه مع المؤمنين فيما يعرف بسنن الهدى، أى النظام المتبع فى الدين بالإجمال من غير تفصيل، أو بالشكل العام من غير تدقيق أو تخصيص مثل شكل الصلاة والصيام والزكاة والحج، ومثل شكل الأسرة والجوار والإمارة أو الحكم، ومثل مبادئ الرفق والتبشير والتقريب. ويدل لذلك ما أخرجه البخارى عن مالك بن الحويرث أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له ولأصحابه معه: «ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتمونى أصلى»، وما أخرجه مسلم عن جابر بن عبدالله أن النبى صلى الله عليه وسلم قال يوم النحر فى حجة الوداع: «لتأخذوا مناسككم فإنى لا أدرى لعلى لا أحج بعد حجتى هذه»، وما أخرجه البخارى عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى»، وما أخرجه الشيخان عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا».
وهذه السنن الموصوفة بالهدى والتى تعد شعائر الدين هى المصدر الثانى للتشريع أو المصدر المبين لبعض المصدر الأول وهو القرآن الكريم مما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الدارقطنى والبزار والحاكم عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتى ولن يفترقا حتى يردا الحوض»، وما أخرجه الطحاوى (ت 321هـ) فى «شرح مشكل الآثار» عن عرباض بن سارية أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى وعضوا عليها بالنواجذ».
لقد استطاع أوصياء الدين المعاصرون أن يصرفوا الناس عن تعريف السنة بإطلاقها الأول الذى أعلاه علماء أصول الفقه بما يحل أكثر المشاكل المفتعلة باسم الدين، وهو التعريف الذى يتفق مع الوضع اللغوى والدلالات الشرعية العامة، ومن ذلك ما أورده الإمام الرازى (ت 606هـ) فى كتابه «المحصول فى علم الأصول» والآمدى فى «الإحكام فى أصول الأحكام» من إطلاق السنة على الطريقة بحيث لا يوصف الشىء بأنه سنة إلا إذا عهدت المواظبة عليه والإكثار منه، فلا تتناول ما يقال لمرة واحدة، أو يفعل لمرة واحدة مما يجعل سنة الهدى أو الشعائر التى أوضحناها هى المصدر الثانى للتشريع، ويجعل المرويات الحديثية المصدر الثالث الذى قد يوصف بالتأريخ وتكون حجيته فى إنشاء الأحكام ائتناساً وليس تأصيلاً كما زعم الداعشيون المؤيدون وأوصياء الدين الرافضون لما نسب بسند ضعيف عن أبى بكر الصديق أنه حرق الفجاءة السلمى، وهو ما نرجو توضيحه فى لقاء آخر بإذن الله.