الحزن الذى عبر عنه الكثير من أساتذة أمراض القلب والأوعية الدموية على رحيل واحد من أعلام هذا التخصص وهو الأستاذ الدكتور عادل إمام هو حزن حقيقى، ربما لم يقتصر فقط على زملائه وتلاميذه من أطباء القلب، لكنه ينسحب لكل من عرف وتعامل مع هذا الرجل العظيم، خاصة المرضى الذين لجأوا إليه على مدى عقود، فهو لم يكن مجرد طبيب، ولم يكن متفوقاً فى تخصصه وحسب، لكنه فى المقام الأول إنسان بكل ما تحمله الكلمة من معان راقية.
فى أواخر الثمانينات كانت بداية معرفتى بالدكتور عادل إمام، وكنت كثيراً ما أحرص على الاسترشاد برأيه فى الكثير من التحقيقات الصحفية التى كنت أجريها فى مقتبل عملى بالصحافة فى مجلة أكتوبر، كنت وقتها لا أزال تحت التمرين، وفى مرحلة تكوين مصادر أستعين بها فى عملى الصحفى، كنت أقابل نماذج كثيرة، منهم المتعاون المتفهم لدور الصحافة، ومنهم المتعجرف والمتعالى، منهم من يملك أدوات علمه ومنهم المدعى، وسط كل هؤلاء كان الدكتور عادل إمام إنساناً بسيطاً عالماً حقيقياً مرحاً لطيفاً خاصة مع مرضاه.
أذكر أننى كنت برفقة والدى رحمه الله الذى كان قد أمضى عقوداً من حياته فى التدخين الذى تسبب فيما بعد فى مشكلات صحية كبيرة، لكنى حين رافقته إلى عيادة الدكتور عادل، وكنت قد توقعت أن يخيفه من الاستمرار فى التدخين، لكنى فوجئت به يتندر مع والدى ويتحدث معه برفق شديد، فأردت أن أنبهه وقلت له إنه يدخن، فرد بهدوء دون أن تفارقه ابتسامته العريضة: وماله ما يدخن! قلت لكنه يدخن كميات كبيرة، فرد بنفس الهدوء والابتسامة: ليفعل ما يشاء أنا نفسى أدخن! دهشت حينها لكنى تذكرت الراحة والسعادة التى بدت على والدى رحمه الله، والذى تقبل منه بعدها نصيحته أن يقلل إذا ما استطاع.الحقيقة أيضاً أنه كان من أكثر الأطباء الذين عرفتهم -وقد أصبح بعدها صديقاً لكل عائلتى- وهو أيضاً صديق لمعظم الكتاب والأدباء والصحفيين والفنانين، ولعل السبب فى ذلك حبه الشديد لكل هؤلاء، وحبه قبل هؤلاء للحياة بكل ما فيها، ولعل هذا ما جعله محباً للناس قادراً على التواصل معهم بود واحترام وإنسانية.
أذكر أنه حكى مرة عن رجل متقدم فى السن جاء إليه بصحبة زوجته، وعرف فيما بعد أن الرجل كان وكيلاً لإحدى الوزارات ثم خرج على المعاش، وحين دخل عليه الرجل إلى مكتبه فى عيادته الوحيدة والشهيرة فى شارع جوهر القائد بالدقى قام ليرحب به ويسلم عليه كما كان يفعل مع كل مرضاه، لكن الرجل تأثر تأثراً شديداً وقال له: إنك تقوم لتسلم علىّ وتستقبلنى، بينما طبيب آخر أقل منك مكانة وعلماً حين مددت له يدى لأسلم عليه أحرجنى أمام زوجتى، وقال بامتعاض لا وقت لدىّ للسلام قل مباشرة ما تشكو منه.هكذا كان الدكتور عادل إمام إنساناً عظيماً وطبيباً نبيلاً وعالماً متواضعاً، فعلى الرغم من أن الجميع يعرف جيداً أنه أحد مؤسسى معهد القلب القومى ومؤسس علم القسطرة القلبية فى مصر، وأشهر من عمل بها، لكنه أبداً لم يردد أو يذكر أياً من هذا، بل كان دائماً متواضعاً محباً للفقراء رقيقاً معهم، وهذه كلها صفات العالم الحقيقى الذى لا يغتر بعلمه ولا بمكانته، وهو فى الحقيقة نموذج قل أن يوجد فى زماننا هذا.. رحم الله الطبيب والإنسان وصاحب القلب الكبير الذى داوى قلوباً كثيرة عاشت تدعو له.