على مدار ساعة كاملة، أطل علينا السيد حسن نصر الله يوم ٢٧ مارس ليوضح موقف حزب الله من عملية عاصفة الحزم، وكان حسين الحاج حسن، وزير الصناعة، قد صرح بأن ما أدلى به رئيس وزراء لبنان تمام سلام أثناء قمة شرم الشيخ إنما يعبر عن وجهة نظر قسم من اللبنانيين وليس عن لبنان الرسمى، يقصد بذلك رفضه تأييد سلام لعاصفة الحزم. وبطبيعة الحال فإن القول بأن رئيس الحكومة غير ممثل لبلده فى مؤتمر للقمة هو أمر فريد فرادة لبنان نفسه. على أية حال، فإن من يمثل ماذا فى لبنان ليس موضوع المقال إنما الموضوع هو خطاب السيد حسن.
انصب الخطاب على تفنيد ما سماه الأمين العام لحزب الله الحجج والذرائع والأكاذيب -وليس أبلغ من نصر الله ولا أفصح- التى سيقت لتبرير عملية عاصفة الحزم. تحدث فى ٢٥ دقيقة عن الحجتين الأولى والثانية، وهما أن الرئيس الشرعى لليمن طلب مساعدة عربية وأن هناك تهديداً للأمن القومى لدول الخليج وباب المندب. ورد على الحجة الأولى بأن تحركاً عربياً مماثلاً لم يقع دفاعاً عن الرئيس الشرعى لكل من تونس ومصر حين عصفت بهما ثورتان شعبيتان عارمتان، مع أن الأول كانت له علاقة جد وثيقة بدول الخليج. القياس هنا غير صحيح فشتان الفارق بين ثورة شعب وبين خروج جماعة سياسية لا تمثل نصف الشعب ولا حتى ربعه، حدودها كانت محافظة صعدة قبل أن يدفع بها تطور الأحداث السياسية إلى أن تنزل من عَلٍ. ورد نصر الله على الحجة الثانية بأنه لا دليل قطعياً يؤكد وقوع التهديد ويثبته، فالأمر لا يعدو كونه محاكمة للنوايا. هنا أيضاً الرد خانه التوفيق، فجماعة أنصار الله لم تكتف بالاستيلاء على العاصمة لا بل ذهبت من خلف الرئيس هادى وحاصرته فى عدن ومعلوم حساسية العلاقة بين الشمال والجنوب فى اليمن وما يمكن أن يؤدى إليه ذلك من اقتتال داخلى، ثم يأتيك نصر الله سائلاً من أين يأتى تهديد باب المندب؟
أما ما تبقى من الخطاب ومدته ٣٥ دقيقة كاملة فكان رداً على الحجة الثالثة التى تقول إن اليمن بات محتلاً من إيران، وهنا قدم السيد حسن دفاعاً مجيداً عن إيران وصولاً إلى القول إنه وإن كان يؤمن بأن سماحة الإمام السيد على السيد حسين الخامنئى إمام المسلمين وولى أمر المسلمين إلا أنه يشهد أن إيران لم تأمرهم يوماً بأمر، ذكر السيد اسم مرشد الجمهورية الإسلامية رباعياً حتى لا يختلط الأمر وتذهب مسئولية الإمامة إلى غير شخصه. ونفى أولاً أن تكون لإيران قواعد عسكرية أو جيوش فى اليمن، والحق أن إيران لا تحتاج جيوشاً نظامية لتحتل وعندما يعلن مسئولوها أن بغداد عاصمة الإمبراطورية الفارسية، أو أن أربع عواصم عربية باتت تخضع لإيران فإن أحداً لم تقفز إلى ذهنه صورة الجيش الإيرانى زاحفاً على تلك المدن فهناك رجال الحرس الثورى الأعلى تدريباً والأكثر تسلحاً، نصر الله نفسه حين تحدث عن دور إيران فى سوريا ذكر «على ذمته» أن الإيرانيين الموجودين هناك عددهم ما بين ٢٠ و٣٥ شخصاً ولا يزيدون على ٥٠ شخصاً، فإذا كان هذا العدد «المحدود» قادراً على مواجهة كل التنظيمات المسلحة فى سوريا، فما حاجة إيران إذن لتدافع عن الرئيس بشار بكتيبة وقواعد عسكرية؟ وبعد نفى التدخل العسكرى الإيرانى فى اليمن ذهب سماحة السيد لمناقشة ما يقال عن الهيمنة السياسية الإيرانية على اليمن ووضع ذلك فى إطار أوسع هو دور إيران فى المنطقة العربية، وهنا ذكر نقطتين، الأولى أن فراغ القوة جاذب للتدخلات الخارجية، والثانية أن إيران حين تدخلت لملء هذا الفراغ لم تكن تنتظر حمداً ولا شكوراً، بل فعلت ذلك من باب التزامها الإسلامى. مسألة فراغ القوة الجاذب للتدخلات الخارجية مسألة صحيحة مائة بالمائة، وقد دلل عليها نصر الله بأمثلة عديدة، فبعد أن تراجعت القضية الفلسطينية فى أولويات العرب بادرت إيران بمد يدها إلى حركات المقاومة الفلسطينية، وعندما دخلت إسرائيل لبنان فى ١٩٨٢ بحث اللبنانيون عمن يساعدهم فلم يجدوا سوى إيران، وحين أراد جورج بوش احتلال العراق ثار الشعب العراقى، فوجد المقاومون الدعم من إيران حتى إذا ظهرت داعش على الساحة واجتاحت المحافظات العراقية تدخلت إيران وأرسلت (رجالها) ليدافعوا عن الشمال والجنوب، وأخيراً سوريا التى اجتمعت عليها كل جيوش الأرض فلم تجد إلا إيران. المسألة إذن صحيحة من حيث المبدأ، لكن الخلط الشديد يلازمها، فمن أعان بوش على احتلال العراق وأيد الدستور الطائفى الذى وضعه بول بريمر وبارك حل الجيش العراقى، وصرح بأنه حاضر ليخلف القوات الأمريكية بعد انسحابها؟ من يربط التطور الداخلى اللبنانى بالتطورات الميدانية فى سوريا، ومصير الملف النووى الإيرانى وكيف يتم هذا الربط؟ من يوظف القضية الفلسطينية فى منافسة تركيا على دور القوة الإقليمية فى المنطقة؟ فى السياسة لا توجد مثاليات ولا فروسية، وعندما يقول السيد حسن لقادة حركة حماس: شرقوا وغربوا لن تجدوا على سطح الكرة الأرضية من يقدم لكم السلاح والذخيرة والتقنية العسكرية إلا إيران وسوريا، ويعزو ذلك إلى الالتزام الدينى المبدئى للجمهورية الإسلامية، أو يعتبر أن دعم إيران مقاومة الاحتلال الأمريكى فى العراق شجاعة منقطعة النظير لأنها تقف فى وجه القوة العسكرية الأولى فى العالم، يفوته أن لكل شىء مقابله، ويعوزه تبرير وقوف إيران مع أرمينيا فى حربها ضد أذربيجان، وشرح لماذا ما حدث فى البحرين واليمن عُد ثورة وما حدث فى سوريا عُد مؤامرة وتفسير إبرام صفقة إيران كونترا فى عز النقمة على الشيطان الأكبر، ثم التفاوض مع هذا الشيطان بشروط لن تتكشف حقيقتها قبل سنين، وسيكون عليه تقديم الحجة لشرح قمع انتفاضة الطلاب الإيرانيين فى ١٩٩٩ والثورة الخضراء فى ٢٠٠٩. فى السياسة المصالح هى التى تحدد المصطلحات وترسم حدود التدخل فى الزمان والمكان معاً، وتلك من المسائل المعلومة فى العلوم السياسية بالضرورة.
كانت لحسن نصر الله فى نفسى منزلة كبيرة، وكنت فى حرب صيف ٢٠٠٦ كأنى طلقة من مدفعه ومقذوف من صاروخه، لأنه حينها كان يجسّد لى ولكثيرين مثلى معنى المقاومة، أما خطاب ٢٧ مارس الأخير فقد فتشت فيه عن سماحة السيد، لكنى لم أجدها.