د. يوسف عامر يكتب.. مع الصادقين
د. يوسف عامر
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].. في هذهِ الآيةِ الكريمةِ يأمرُ اللهُ تعالى عبادَهُ المؤمنينَ بالصدقِ، ولكنْ لم يأتِ الأمرُ به مباشرًا (اصدُقُوا)، وإنما أمرَهُم سبحانه وتعالى أولًا بالتقوى، فالصدقُ والتقوَى لا يفترقانِ، وهل يُوجدُ تَقيٌّ كذوبٌ؟! أو يوجدُ صِدِّيقٌ غيرُ تَقيٍّ؟!
ثم جاءَ الأمرُ بعدَ ذلكَ بالصدقِ بصورةٍ أبلغَ مِن الأمرِ المباشرِ (اصدقوا) فقال سبحانه: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وليسَ هذا مجردَ أمرٍ بتحرِّي الصدقِ فقطْ، وإنما هو أمرٌ بأنْ يلتزمَ المؤمنُ صحبةَ الصادقينَ كما يلتزمُ الصدقَ، وهذا معناهُ أنْ يتشاركَ الصادقونَ في بناءِ المجتمعِ، وأنْ يُنحَّى الكَذَبَةُ المفسدون فلا يكونُ لهم دورٌ يفسدونَ مِن خلالِهِ في المجتمعِ، وهل يَثبتُ بناءٌ أُقيمَ على غيرِ الصدق؟!
فالصدقُ إذنْ فرضٌ مُلتزَمٌ حتى قالَ بعضُ الصالحين: مَن لم يُؤدِّ الفرضَ الدائمَ لا يُقبلُ منهُ الفرضُ المؤقتُ. قِيلَ: ما الفرضُ الدائمُ؟ قال: الصدقُ.نعم.. وهلْ إسلامُ العبدِ يكونُ مقبولًا عندَ اللهِ تعالى إِلَّا بصدِقِه فيهِ؟!
والصدقُ كما يكونُ في الأقوالِ يكون أيضًا في الأعمالِ، لا كما يظنُّ البعضُ أنَّ نطاقَ الصدقِ هو الأقوالُ فقطْ، فليسَ هذا الظنُّ صحيحًا، ومما يدلُّ على هذا قولُ اللهِ تباركَ وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] ففي هذه الآيةِ بيَّنَ سبحانه وتعالى أنَّ البرَّ يبدأُ مِن الإيمانِ.
ثمَّ يدخلُ فيهِ أعمالُ خيرٍ عظيمةٌ تشملُ عباداتِ المرءِ ومعاملاتِهِ ونفعَهُ لِمَن حولَهُ، ثمَّ بعدَ أنْ ذكَرَ اللهُ سبحانه وتعالى هذه الأعمالَ أشارَ إلى القائمِينَ بها بقولِهِ سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}، فبيَّنَ أنهم حَصَّلوا الصدقَ بأعمالِهِم الصالحةِ.
وإذا تساءلَ البعضُ عن كيفيةِ الصدقِ في العمَلِ، فنقولُ: كما يكونُ الصدقُ في القولِ بأنْ يكونَ الكلامُ موافقًا للواقعِ المخبَرِ عنهُ دونَ كذبٍ، فإنَّ الصدقَ في العملِ بأنْ يكونَ العملُ موافقًا للوجهِ الذي يرضاهُ الله تعالى غيرَ مخالفٍ له.
فيتمثلُ الصدقُ في القيامِ بواجبِ العِلْمِ واتباعِ أخلاقِ المهنَةِ، وعدمِ التهاون والتقصير في المسئولياتِ، وإذا كان هذا القدرُ قد يُشاركُ المؤمنِينَ فيه غيرُهُم حتى مِن أتباعِ الدياناتِ الوضعيةِ، فإنَّ الصدقَ في الإسلامِ لا يَقِفُ بالمسلمِ عند هذه الحدودِ، وإنما يرتفعُ به إلى معاملةِ اللهِ تعالى، فالصدقُ -كما يقولُ السَّلَفُ الصالحُ- هو الوفاءُ للهِ عزَّ وجلَّ بالعملِ.
والصادقُ -كما يقولون أيضًا- لا تراهُ إِلَّا في فرضٍ يُؤدِّيهِ، أو فضلٍ يَعملُ لربِّهِ فيهِ.
وقد تفضَّلَ اللهُ تعالى على عبادِهِ بأنْ جعلَ دواعِيَ الصدقِ أقوَى وأرسخَ وأصدقَ مِن دواعِي الكذبِ، فالشرعُ يأمرُهُ بالصدقِ وينهاهُ عن الكذبِ، والعقلُ السليم يحضُّ صاحبَهُ على الصدقِ ويبينُ له منافعَهُ في مقابلِ ما يُؤدِّي إليه الكذبُ مِن مهالكَ، والفطرةُ النقيةُ تعرِفَ الصدقَ وتُنكرُ الكذبَ، ومُروءةُ ذِي المروءةِ تمنعُ صاحبَهَا مِن الكذَبِ وتَبعثُهُ على الصدقِ...، فهل بقيَ لغيرِ الصدقِ مِن شيءٍ؟!